جريدة الجرائد

أمان الولاء للطائفة.. صعوبة الولاء للوطن!!

قرائنا من مستخدمي تلغرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك


منى فيـّاض


في لبنان عندما تلتقي احداً لمرة أولى ويعجز عن موضعتك من مجرد معرفة اسمك، يبدأ بسؤالك: من اين انت؟ وعندما تجيب بشكل عام، من بيروت مثلاً، يبدأ بسؤالك هل فلان او علاّن يقرب لك؟ ويكون يحمل اسم العائلة نفسه لكنه يعرف من هو ويموضعه.
ماذا تضمرهذه الأسئلة؟ إنها تريد أن تعرف: من اي منطقة أنت؟ من اي عائلة أو عشيرة؟ من أي دين؟ وباختصار من اي طائفة؟
هذه هي الأسئلة التي تحوم في رأس محدثك ولا يجروء على سؤالك إياها مباشرة. وهو لا يفعل هذا بالضرورة بنوع من التحيز او العنصرية أو النبذ، ربما هو ببساطة "لا يريد أن يغلط معك"! وما هو هذا الغلط الذي قد يحدث؟ أن يتناول طائفتك اومذهبك بسوء من دون قصد، أو بنوع من التمييز المتبادل وغير المعلن بين مكونات الشعب اللبناني. لذا محدثك لن يشعر بالاطمئنان لمحادثتك إلا إذا عرف نفسه "مع من يتكلم" ليأخذ حذره او حريته. لأن ما هو عميق ومكثف في الحضور، هو تماما ما هو مسكوت عنه، أي انتماؤنا الديني والطائفي.


ماذا يعني الانتماء الطائفي والولاء الوطني؟

لا بد في البداية من طرح اطار لموضوعنا عبر الاشارة الى ضرورة التمييز بين فكرتي الانتماء والولاء وتحديدهما.
يكتب الدكتور انطوان مسرة(1): "يطرح موضوع الولاء الطائفي بشمولية وغموض واطلاقية وكأنه حقيقة ثابتة ومستمرة وغير متغيرة زمانا ومكانا، ويجري تحليل الواقع انطلاقا من هذه المسلمة وتستخلص النتائج في المعالجة انطلاقا منها". وهو يجد أن كل واحد منا ينتمي الى طائفة قسرا حسب قوانين الاحوال الشخصية. ويندرج الانتماء الى طائفة في اطار تعدد انتماءات الفرد الى عائلة ومولد ومسكن ومجال دراسي ورفاق عمر وجمعيات طوعية ونقابة وتيارات فكرية واجتماعية ووطن ومحور اقليمي وبالنهاية الى الطبيعة الانسانية على المستوى الكوني.

ولفهم خصوصية مستويات الانتماء المتعددة المذكورة يجب ان نفرق معه بين الانتماء appartenance والولاء allegeance الذي "ينقلنا الى ما يتخطى الانتماءات الاجتماعية كافة ويدخلها في سياق ارتباط وطني وتابعية وحماية". ولقد كانت هذه الكلمة تستخدم تاريخيا (بحسب قاموس روبير) من اجل التزام الخضوع التام للاقطاعي او الراعي، الا ان الاستخدام تغير في زمن الدولة الحديثة دولة المواطنية والحقوق من الخضوع للفرد، ومهما كان مقامه، الى الخضوع والاخلاص للوطن نفسه فقط، وللجنسية التي يحملها المواطن. والخضوع هنا يتم بشكل ارادي وواعٍ كما نخضع للقانون؛ الامر الذي يختلف تمام الاختلاف عن الخضوع لشخص ما سواء اكان اقطاعيا او زعيما او قائدا.
ولمزيد من فهم الفرق بين الأمرين، سنعتمد مفهوم "الانتماء" بحسب المعنى الذي يستخدمه تونيس، الذي يفرق بين معنيين: معنى الانتماء العضواني ومعنى الانتماء الميكانيكي. فالانتماء الى الطائفة او العائلة هو نوع من المشاركة الوجدانية على مستوى الحياة الواقعية والعضوانية وهذا ما يشكل جوهر الحياة في الجماعة - الطائفة (سوف نستخدمها كبديل من communauteacute; التي تجمع بالنسبة لنا بين confession وgroupe) أي جوهر الانتماء العضواني. اما الانتماء الى المجتمع فيمكن ان نعده كتمثل افتراضي وارادي بمعنى ما، اي انه يفترض منا الجهد ولذا يسميه تونيس الانتماء الميكانيكي.

اذن بحسب تونيس كل ما هو حميم وواثق ومتعايش بديهيا يعبر عن الحياة في جماعة- طائفة وهو عضواني لانه المنبع المشترك للحياة النباتية التي تبدأ مع الولادة.
اما المجتمع فكل ما هو عام public، انه العالم الذي نجد انفسنا فيه، يعني على عكس الجماعة التي تحيط بنا منذ ولادتنا ونرتبط بها في الخير وفي الشر؛ ففي المجتمع ندخل كما الى ارض غريبة فنحذر المراهق من المجتمع السيء لكن لن نحذره من الجماعة -الطائفة السيئة (اي جماعته) ففي ذلك تناقض جذري في المعنى وخُلف، لانه ينتمي اليها من دون تساؤل او امكان خيار. ذلك ان المجتمع الانساني هو عبارة عن تجاور اشخاص مستقلين واحدهم عن الآخر؛ فهو انتماء ميكانيكي يتطلب من الفرد دورا فاعلا واختيارا واعيا وتحدده العقود والقوانين. المجتمع عابر وظاهري. اما الجماعة- الطائفة فهي الحياة المشتركة الحقيقية والدائمة. الجماعة - الطائفة قديمة بينما المجتمع جديد.
ولتوضيح فكرتنا سوف نفرق بين فكرتي الانتماء البديهي والعاطفي والعضواني لجماعة- طائفة عن الانتماء الميكانيكي الى المجتمع؛ فنحتفظ بكلمة "انتماء" لتعني الانتماء العضواني للطائفة او الجماعة. وبدلا من استخدام "انتماء ميكانيكي" التي يشكل الانتماء الى الوطن جزءا منها سوف نحتفظ بكلمة الولاء بمعناها ووظيفتها - أي الخضوع الارادي والاختياري الملزم- لكي تعني وتستخدم وتمارس حصريا تجاه الوطن. انه الولاء او الخضوع القائم على مفهوم عقلاني لتنظيم العلاقات بين البشر والتي يحددها عقد اجتماعي ينظم علاقات الافراد ويضبطها عبر القوانين.

ميزة تعدد الانتماء: المزيد من الاعتدال

ان الولاء الجوهري والأهم للمواطن تجاه بلده هو اساساً، الولاء السياسي. وفي مجتمع متعدد يمكن هذا الولاء السياسي ان يتعايش مع انواع أخرى من الولاءات، ولنفرقها عن الولاء للوطن سوف نطلق عليها كلمة انتماء كما سبق واشرنا؛ اذن يمكن ان ينتمي المواطن الى العائلة، المسجد او الكنيسة او المجموعات الخاصة والتنظيمات او المثالات السياسية والاجتماعية وحتى الانتماء لمؤسسات سياسية أو تنظيمات عالمية او بديلة أخرى. وقد تقود كل واحدة من هذه الانتماءات الى النزاع مع الولاء الوطني، ولكن ذلك لن يحصل بالضرورة عندما تعطى الاولوية للولاء للوطن حصرياً. وكلنا نعلم ان الخيانة العظمى ليست سوى خيانة الوطن.

لكن تعدد الانتماءات في لبنان يشكل ميزة اساسية وايجابية. لماذ؟ نكمل مع مسرّة: "يساعد تعدد الانتماءات في المجتمع اللبناني على الاعتدال والتسوية والتواصل. فالماروني (واضيف او المسلم) الذي يقطن في بعبدا وهو متزوج من ارمنية وفي نقابة وجمعية ينحو بفعل هذه الانتماءات المتداخلة الى التوفيق بينها، وتاليا الى الاعتدال اذا تعارضت هذه الانتماءات". وعلى العكس من ذلك "حالة شخص ينتمي الى طائفة دينية ويقطن في حي جماعته ويدرس في مدرسة جماعته ويتزوج من ابنة جماعته ويعمل في مؤسسة تابعة لجماعته وهو عضو في حزب أكثرية ساحقة من ابناء طائفة واحدة... قد يكون هذا الشخص اقل انفتاحا واعتدالا في الموقف او في اقصى الحالات منغلقا كما في بعض القبائل"(2).

وهذا الوصف ينطبق على فئات من جميع الطوائف اللبنانية. ونوافق مع مسرة "أن ما يميز المجتمع اللبناني بشكل عام درجة عالية من العضويات المتداخلة المتزاحمة...". لكن ذلك كان ينطبق على لبنان ما قبل الحرب الاهلية حيث كان المجتمع اكثر اختلاطا وانفتاحا. لكن من الملاحظ بشكل خاص في لبنان - والعالم العربي عامة - ان هناك عودة إلى البنى العائلية التقليدية والعلاقات العضوانية بحسب تعبير تونيس والتعصب الذي يرافقها.
بدلاً من علاقات المجتمع "الزائلة والظاهرية" والمسببة للاحباط، لم يعد الفرد يرضى بالوجود المتجاور المنفصل على رغم كل ارتباط، بل احتاج بسبب الحرب إلى العلاقة الحميمة التي تؤمنها له "جماعته المطمئنة". احتاج إلى الارتباط العضوي بها، واحتاج إلى الثقة والأمن اللذين يتوفران في حضنها، كما في حضن الأم والأسرة.

الانتماء حاجة اساسية

واذا كان الانتماء الى حضن حام وجالب للامن من الحاجات الاساسية لدى الانسان كالحاجة الى الطعام او التناسل، وهو لذلك حاجة يتقاسمها كل البشر فإن الفرد لا يستطيع ان يعيش منعزلا بحسب تعابير فروم(3)، والذي لا يمكنه الافلات من هذا الشعور بالانفصال الا عبر الاتحاد بطريقة او باخرى بالناس لكي يفلت من تجربته المخيفة للوحدة بمعنى العزلة؛ فبحسبه، فقدت الكائنات البشرية توحدها الأصلي مع الطبيعة لذا نجد انها تبحث عن اتحاد جديد مع اقران لها هربا من الشعور المخيف بالعزلة التامة الدافع الى الجنون.
لذا يعد التوحد مع الجماعة الطريقة الفضلى للتغلب على هذا الشعور بالانفصال. ان طبيعة الانسان الاجتماعية وحاجته الطبيعية تدفعه لاقامة علاقات اجتماعية متعددة ومن هنا انتماؤه الشعوري واللاشعوري الى الاسرة والجماعة والعشيرة والقوم. يصبح كالطفل الخائف الذي وجد اخيرا الطمأنينة في حضن الام. لقد دفعت الحرب الاهلية والمعاناة الطويلة من الاحتلال الاسرائيلي الى بحث الفرد عن الوجود المتجاور وعن العلافة الحميمة المطمئنة التي تؤمنها له الجماعة، إحتاج إلى الإرتباط العضوي بها في وقت اضطراب العلاقات الاجتماعية والمؤسسية وانهيار الدولة. فاحتاج الى حضن الجماعة كما يحتاج الى حضن الام، وكأنه تحول الى قاصر اوعاجز عن حماية نفسه بنفسه فاحتاج الى من يحميه مثل الطفل.

دور الفساد وتدهور دور الدولة في تدعيم الولاء الطائفي

في لبنان الستينات كان هناك بدايات اتجاه يسمح ببلورة حياة خاصة للافراد، بما هم أفراد، تسمح لهم بهامش من الاستقلالية، في معزل عن الأطر التقليدية للأسرة والطائفة والجماعة. ساعدت الشهابية على ذلك عبر بدايات ترسخ دولة قوية، في محاولة لأن تكون عصرية تعطي الفرد بعض حماية (مؤسسات مثل الضمان الاجتماعي - مجلس الخدمة المدنية الخ...). لكن الحرب الاهلية اعادت الأمور إلى وضعية سابقة شبه أثرية وساعد اختلال السّلم الاجتماعي وتدهور النظام العام وانتفاء العدالة إلى تدهور سلطة الدولة وكما يكتب آرييس: "عندما تكون الدولة ضعيفة ورمزية تتعلق حماية الفرد بالتضامن الاجتماعي وبالقيادة Cheferies التي تلعب دور الحماية - فلا يعود للفرد اي وجود شخصي، اي ملكية حتى ولا للجسد، الذي يشعر نفسه مهدداً وتصبح حياته معلقة برابطة التعبئة. اذن عاد الفرد في لبنان إلى أطره التقليدية مرغماً لحماية نفسه وفي ظل فلتان طاول اوجه الحياة ونواحيها، عاد إلى الزعيم والطائفة والعائلة، واستعادت البنى التقليدية حيويتها (وهي التي لم تكن قد فقدتها فعلاً لكنها استمدت زخماً جديداً).
لكن يجب الاعتراف، بأن الدولة في لبنان غالبا ما كانت غير عادلة فعلاً ولم تتوجه إلى "مواطن" بشكل حقيقي، الدولة حتى في أوج قوتها كدولة لم تكف عن استتباع الولاءات من طريق توزيع الخدمات والثروات والمراتب. ان قانون الغنيمة هو السائد في تقسيم ما تحصّله الدولة واعادة توزيعه على جماعاتها كل حسب قربه منها اوحاجتها اليه او من أجل شراء سكوته.

لكن أثناء الحرب وبسببها برزت هذه الصفات بشكل فاحش، تحوّل أهل الدولة الى أمراء حروب وإلى تجار وجباة ضرائب، إنها دولة جباية؛ فيدفع المواطن غاليا ثمنا لخدمة سيئة وغير كافية الامر الذي يشعره بالظلم. وصار المواطن يشعر أن الدولة تسرقه ولا تقدم له الامن والحماية المطلوبين، فكيف يتصرف هو بالمقابل؟
كما ان أي خدمة يطلبها من أي مؤسسة حكومية يجب ان يتسلح طالبها بمعرفة شخصية وخاصةً بالموظف. على الموظف ان يعرف المواطن شخصياً اوان يذكر له مرجعاً يعرفه، يعني ان يكون "من جماعته". اذن إما الواسطة وإما الرشوة. يساعد على ذلك نظام الولاء - بمعنى الاستتباع- الذي يغذيه الانتماء الشخصي ويحرص كل زعيم وكل متنفذ على تدعيمه. يغضب الزعيم احياناً عندما يقوم احد ازلامه باسداء خدمة مباشرة إلى مواطن دون معرفته أو دون حضوره المعنوي أو الشخصي. يمركز كل الاشياء بيده، وذلك يساهم في تدعيم الاستتباع وتدعيم جعل امور الدولة وشؤون المواطن كلها جزءاً من قطاع خاص من نوع خاص، يجعل العام متعلقا بمفاتيح ومداخل وزعامات ومناطق وطوائف. وفي هذه الظروف هناك خلط بين العام والخاص، وهو احد اهم مسببات الفساد.

ونظام الواسطة هذا هو احدى الاواليات المستخدمة للحفاظ على الولاء - بمعنى الخضوع - بدل الانتماء المتحدث عنه والمقبول به. وموضوع هذا الولاء العائلة، العشيرة أو المذهب أو الطائفة. "ففكرة الوطن أو المجتمع فكرة مستجدة في بلادنا لا معنى لها الا بارتباطها بالنماذج الاولية للقرابة والدين(4) التي اعادت الحرب من تشديد روابطها.
ويشكل هذا ربما احد اهم اسباب اختلاط مفهومي الانتماء بالولاء ويتشكل بينهما نوع من الرابط العضوي ويتراجع بهذا المعنى الشعور بالمواطنية واولوية الولاء للوطن اي الخضوع له وتفضيل مصلحته - العامة - على المصلحة الذاتية والمختلطة بالانتماء الطائفي الذي يتحول الى ولاء مطلق للطائفة - الجماعة. وهكذا يخف الشعور المواطني ويستبدل الولاء للوطن بالولاء للانتماءات العضوية والاهلية.

كيف يتحول الانتماء الى ولاء
ومن ثم الى تعصب ولماذا؟

شكل الاحتلال الاسرائيلي، ويشكل، جرحا نرجسيا يطاول كل عربي في عمق وجوده الواقعي والرمزي ويعوّق تطلعه الى حياة كريمة تؤمن له كرامتيه: الوطنية والانسانية. لقد اضعفت الاحداث والحروب المستمرة منذ ما يقرب الستين عاما من دينامية الفرد العربي ونشاطه ومطالبه في الحياة الكريمة، ومن قدرته على التطور بما يتلاءم مع متطلبات العصر، فوقع عاجزا بين مطرقة اسرائيل وسندان الانظمة العربية العاجزة والمستبدة في الوقت نفسه والتي تتمتع بنسبة عالية من الفساد. ولقد تسبب تضافر الاحتلال والفساد والعجز والاستبداد بغرق المنطقة في هوّة من التأخر على جميع الصعد: فتأخرت التنمية وتراجع التطور وعمت البطالة والامية الشعوب العربية التي تكابد العجز على صعيد التحرر الوطني، وعلى صعيد التنمية البشرية والتطور الاقتصادي، بالرغم من كل الثروات الطبيعية التي تمتلكها والتي تتحول الى مجرد ثروات فردية وتبذر على الاستهلاك من دون القدرة على الانخراط الجاد في سياق التنافس العالمي وعلى مختلف الصعد: اي المساهمة في عملية التطوير الاجتماعي او الانتاج الاقتصادي او الفكري او اي مستوى آخر.

ان هذا العجز المستحكم صعّد اواليات القلق والعجز والاحباط عند الفرد العربي الذي لم يحظ بأي نصيب من الامن او الاستقرار او النمو. من هنا لجوء الفرد الى البحث عن حماية او عن سند يرتكز اليه في وجه اعداء حقيقيين ووهميين. ومن هنا تشكل الجماعة - الطائفة ملاذا مطمئنا وتقوم بوظيفة دفاعية بامتياز. كما انها تساهم في تدعيم هويته عبر اعتراف الاخرين بها. والانسان يحتاج الى مركز تدور حوله جهوده ويدعم قيمه الجوهرية ويحفز طاقاته الكامنة لاشباع حاجاته ويعطي لحياته معنى. والجماعة تمثّل هذا الإطار الجامع الذي يدعم الفرد في سبيل تحقيق غاياته.

والفرد يبحث ايضا عن القوة، لانه يشعر نفسه مهددا، ويغذي هذا الشعور بالقوة من خلال الانضمام الى جماعة تبدو له قوية ويحصل تالياً على "الشعور بالقدرة الكلية". ان الفرد يطمئن نفسه عبر الالتحام بهذه الجماعة مستمدا قوته منها. فلدى العرب تصور ذهني بأن القوة تكمن في الجماعة والتجمع- وليس في القوانين والمؤسسات- وباعتماده على هذه الجماعة، يصبح قادراً أن يقوم بأفعال "يقر بعجزه عن القيام بها منفرداً". ان تجربة الحياة الجماعية تولد فكرة القوة.
وهذا ربما احد اسباب لجوء هذا الفرد الى البطل او القائد الذي يمثل هذه الجماعة ويجسد قوتها. انه يبحث عن هذا البطل من اجل الانتماء اليه وتوكيله امره بنوع من الشعور المترافق بالايمان بقدرته الكلية على حل مشاكله. ويلعب الانتماء الى الجماعة - الطائفة دوره في تضميد جراحه وتهدئة قلقه، ولكي يحمي نرجسيته عبر انتمائه الكامل لهذه الجماعة المصطفاة والقادرة (عملية 11 أيلول التي تحمست لها الجماهير العربية والاسلامية وعُدّت انتقاما لكرامة المسلمين المهدورة وصار بطلها بن لادن بطلا قوميا ومثالا يحتذى للشبيبة الصغار، وصدام أيضا بطل قومي لا تزال تبكيه الجماهير بسبب صاروخين سقطا على تل ابيب).

وبما ان الفرد يجد الامن ويطمئن في حضن هذه المنظومة يتعصب لها وتدعم هي توظيف تعصبه هذا في اعادة انتاج ركائزها الاعتقادية الثابتة وبثها الحياة والحيوية. ان فكرة الاتحاد مع شخص كامل القوة، تجتمع حوله الجماعة، يعطيهم الامن المفتقد والثقة الغائبة.
ويجد المواطن العادي ان هذا الاصطفاف خلف جماعة مصطفاة ادعى للامان من اللجوء الى المنظومة الفكرية العلمية او النقدية والرافضة للامتثال والانقياد لانها تتمتع بالشك والتعددية فهذا خيار اكثر صعوبة واقل اثارة للانفعال واقل تأثيرا ويتطلب وقتا اطول مقابل الاجابات السريعة التي يعطيها يقين الجماعة والانتماء اليها. ان الاصطفاف خلف الجماعة يشبه لجوء الطفل الخائف الى رجل قوي يتماهى معه ليحمي نفسه من الاعداء المفترضين. ومن يمتلك هذه الرموز السلطوية يعمد الى تعطيل التفكير الواقعي الامر الذي يدفع بالرعايا الى الاعتقاد حتى بالاوهام والاساطير.

هذا الانتماء العضواني يدافع من جهة عن الذات ومن جهة اخرى يقود الى الهيمنة على الآخرين، ويصبح الفرد متماهيا مع الجماعة ومتعصبا لها حتى اذا ادى الامر الى الدمار، وهذا هو المثال المتكامل المتعصب للغاية. ورغم هذا التعصب يشعرالفرد براحة الضمير بسبب انتفاء مسؤوليته الشخصية برميها على الآخر الكامل القوة فهو لا يقرر عن نفسه بل جماعته من يفعل ذلك عنه، متأملا ان ذلك سوف يؤدي الى تحول سريع لظروف حياته. ان المسؤولية الفردية تتلخص في الاحساس الداخلي بالذنب الذي يحصن الفرد عند قيامه بعمل ما والذي يجعل منه شخصاً واعياً ومسؤولاً. اما الانقياد الأعمى خلف جماعة ما، فيؤدي الى التخلص من حس المسؤولية برميها بين يدي قائد الجماعة فيسقط في الاتكالية والتبعية المفرطة. فهل بإمكان أمثال هؤلاء بناء وطن طالما ان قيادات الجماعات المتنافسة على السلطة هي التي تحركهم؟
كما ان الانتماء الى الجماعة يساعد في الحصول على هوية داخل الجماعة وهذا يعني انه لم يكن مجرد تخلٍ عن الحرية من اجل الحماية انما من اجل اثبات الذات ولكن في شكله الجماعي اي اثبات هوية الجماعة - الطائفة. وفي هذه الحالة يذوب كيان الفرد وتختفي معالم شخصيته لمصلحة اندماجه في الجماعة، ويصبح المدافع الاول عن مصالحها والرافض لأي رأي قد ينتقدها. وفي ظل هذا التنافس الذي تخوضه الجماعات، لا يعود من الممكن - على اي حال - ايجاد مكان فعال للفرد الحر المستقل، كما تدهور العصبيات مفهوم الوطن تدريجا ما دام الوجود يظل للجماعة - الطائفة او التيار العقائدي.
ان الشيء المعروف والمتفق عليه من قبل كل علماء النفس ان الفرد ما ان ينخرط في جمهور محدد حتى يتخذ سمات خاصة ما كانت موجودة فيه سابقا ولو كانت موجودة ما كان يجرؤ على التعبير عنها بهذه الصراحة والقوة. فالحشد كائن آني يتكون من عناصر متباينة تلتحم في لحظات معينة كما يفعل الجسم الحي المكون من خلايا تشكل عند تجمعها جسما حيا جديدا مختلفا عن كل مكوناته السابقة. وتكون الحشود الجماهيرية نزوية، متحركة وسريعة التأثر ولا تتحمل أي تأجيل لرغباتها المحمولة الى اقصى الاحتمالات. وهكذا تخضع الجماهير لسلطة القائد الكلي القدرة والمتحكم بها. ومن هنا مخاطر نزول مثل هذه الجماعات الى الشارع.
ان الموضوع المشترك الذي يزيد لحمة افراد الجماهير المتعصبة يقود الى اخصاء العقل وتصلب الفكر وسيادة الانفعال بالضرورة. فمن خصائص الفرد المنخرط في الجمهور تلاشي الشخصية الواعية وهيمنة الشخصية اللاواعية واتباع الجماعة بشكل اعمى بواسطة التحريض وتغذية الاوهام، وغالبا ما تنعدم الروح النقدية والرأي الشخصي لدى الفرد وينزلق الى المبالغة في المشاعر. والانخراط في الحشود الجماهيرية وفي الجماعات المتعصبة يكتسب اهمية اضافية لدى الشخص الجاهل ذلك أن الاندماج في مجموعة يحرره من الاحساس بالدونية وعدم الكفاءة والعجز ويصبح مشحوناً بقوة هائلة.

دور القائد

وهنا يبرز تأثير اشخاص معينين تعتبرهم الجماهير مثالاً وقدوة وتعترف انهم قادة لها، وتنطلق خلف آرائهم بشكل اعمى ودون سؤال. فالقائد يسعى للقضاء على كل من يعترضه متسلحاً بخطاباته الايحائية، وقدرته الساحرة على الاقناع، واسلوبه الجذاب باستخدام نبرات الصوت والتعابير التي تعبر عن رغبات الجمهور الدفينة، والجمل ذات الكثافة التعبيرية والعبارات البسيطة وتكرارها؛ الأمر الذي يقنع الفرد العاجز بقدرته على تحقيق المعجزات.
وبالنسبة للجمهور، أي اولئك الافراد الذين يعيشون بعض الحرمان او العجز عن تنفيد احلامهم الصغيرة او الذين يعانون من القلق من المستقبل يعيشون من الآن فصاعدا بانتظار حل سحري ينبثق فجأة على يدي الزعيم الذي يعد الناس بايجاد مخرج لكل المآزق مقابل عدم معارضته والانقياد الاعمى له.

وعلى رأي ايزايا برلين عندما ارغب في ان اكون سيد مملكتي انسحب الى الداخل وانطوي على نفسي. وهذا ما يحققه الافراد الملتحقون بالجماعة بحركتهم التعصبية؛ ذلك أن أكثر ما يخيفهم ويعذبهم افق التغيير الممكن ولا سيما التحول السريع في حياتهم سواء اكان على الصعيد الديني او القومي او الاجتماعي. فكيف الامر لو اجتمعت هذه جميعها؟ وهذا ما حصل على مستوى الطوائف اللبنانية وان بدرجات وحقب مختلفة. ففترة الاحتلال الطويلة للجنوب وما رافقها، والاضطهاد الذي مارسته الهيمنة السورية على فئات اخرى شكلت كلها ضغوطاً وتسببت بالتحدي نفسه ايضا موجدة وضعية يصعب تحملها. في مثل هذه الحالات تنكفئ الجماعات الى حصونها الداخلية متخلصة من الصعوبات والمعوقات؛ ومما يزيد من تماسك الجماعة اعتراف الآخرين بمثل هذا الانتماء وهذا يشكل هدية اخلاقية واجتماعية تزيد من تماسك هذا النسيج الاجتماعي، واذا كان في الانتماء الى جماعة نوع من تخلٍ عن قدر من الحرية فان ذلك يعوض عنه باثبات الذات في شكلها الجماعي أي اثبات الهوية الجماعية لهذا الانتماء والتعصب له...

ويتميز التعصب في الاعتقاد وفي التعلق الغامض بافكار لا يمكن اثباتها او نفيها. فالمتعصبون سلموا امرهم لزعيم يمتلك القوة بدلا منهم في عملية يختلط فيها الروحي بالديني. ومثل هذه الاقتناعات موظفة نرجسيا بحيث ان اي تعرض لها يعتبر مسا ينال من الشخص نفسه بالكامل. فهو لا يبحث عن توظيف ذاتي بل يكرس نفسه لمثال مفروض من الخارج ومقبول منه كأمر مفروغ منه وككتلة واحدة، فهو يقبل هذا المثال كجزء من تاريخه ومثله الشخصية يرتبط بها بالف خيط وخيط بروابط عاطفية كما هي رمزية ومعرفية وفكرية. ويصبح التعصب اقوى كلما ارتبط بالوعد بتحقيق رغبات دفينة مكبوتة.
ومن هنا وهم اكتساب القدرة الكلية التي يلجأ الانسان اليها بدل مواجهة متطلبات الواقع؛ ان نزوات الانسان العدائية ليست هي من كلفت التاريخ الحديث اغلى الاثمان وانما التفاني والتبعية المفرطة المندمجة في قابلية الايحاء لبعث الاوهام القديمة. ومنها مشاعر الاضطهاد او الاحباط التي تنفجر على شكل عدائية مسقطة على عدو خارجي، وهذه العدائية تصهر الوحدة في مواجهة عدو معين وهذا يحتاج الى الاعتقاد بمبادئ مطلقة، فالاطلاقية وحدها تجعلهم ابرياء واطهار.

وهذا ما يساعد المتعصبين على الانقياد الاعمى، فقسمة العالم الى قسمين، الجيد والرديء، الخير والشرير هي في صميم الفكر المتعصب. فالمتعصب نفسه هو "الجيد"، بينما يجري اضفاء صفة الشر على الآخر، العدو الذي يرغم على خوض معركة دفاعية ثابتة لكي يصون نفسه.
وبحسب الدراسات الاتنوسيكولوجية ستكون المعركة حادة بقدر ما سيضع فيها الآخر الاجزاء الرديئة وغير المرغوب فيها من شخصيته بالذات، ومن هنا ان من يندد بخطايا الجسد يناضل في النهاية ضد اهوائه الخاصة وشهواته التي يشعر انه من غير الممكن قبولها. وهذا يؤدي الى حلقة مفرغة ففي الواقع يزيد عدم الاشباع من حدة التوترات وهذه التوترات تجعل مما هو مسقط على الخارج اكثر ضغطا فتزداد العدوانية. لا يحدث تنفيس التوترات الا باكتشاف الواقع من جديد، الواقع الذي لديه جوانب سيئة واخرى جيدة، بينما المتعصبون يعيشون في عالم لا واقعي منقسم الى قسمين حصريين وخاضع لهوامات مرعبة، وبالتالي تصبح العدوانية المثارة ضد الآخر الشرير اكبر واعمق، الى جانب تضخيم للذات مرضي، ويسبغ على هذه الذات المزيد من القدرة الكلية والعلم الكلي، فيعاد اكتشاف الشيطان وتحضر نهاية العالم.

حول المسؤولية والحرية الفردية

يعتبر ايزايا برلين(5) ان ما يجعل الناس احرارا ليس السلوك بموجب طرق معينة لاصلاح الذات، طرق يلزم نفسه باتباعها، انما يتم الاصلاح من طريق ادراك السبب الذي يحتم عليه ان يسلك مثل هذا السبيل او غيره ومعرفته انه لا يمكن لاحد القيام به نيابة عنه. يعني ان عليه ان يختار بوعي وحرية. اذن الفرد هو هنا كينونة فاعله وله دور ايجابي وهو لا يقبل فكرة انه ولد لينقاد، وانه بمجرد اتباعه الآخر سيصل الى التغيير. على الفرد ان يستخدم عقله وفكره وان لا يسمح لاحد بالسيطرة على اغلى ما يملك الا وهو حرية الفكر. لذا يدعو فروم الى اعتبار النضج الكامل للفرد والجماعة الهدف الاسمى لان تطوير المجتمع بحاجة الى تطوير الفرد وليس من يحكمه. ومن هنا اهمية ان يكون الفرد حرا والجماعة غير متعصبة لان الافراد العاجزين يولدون الجماهير العاجزة.

دور المواطنية

وحدها ممارسة المواطنية بما هي علاقة بين الفرد والدولة، تكفل كامل العضوية السياسية للفرد في هذه الدولة وتتطلب ولاءه التام لها. لكن الفرد يمكن ان يكون تابعاً لسلطة الدولة دون ان يحظى بالحقوق والواجبات والمسؤوليات والامتيازات نفسها التي للمواطن. لذا لا يمكننا الحديث عن المواطنية من دون الاشارة الى الديموقراطية التي هـي أسلوب حكم، وطريقة حياة، وهدف، ومثال وآلية، وهي قبل هذا وذاك فلسفة سياسية. والصفة الرئيسية في النظام الديموقراطي هي مسؤولية الحكام عن أفعالهم أمام مواطنيهم، الذين يمارسون بدورهم الرقابة ويساهمون بالتشريع بطريقة غير مباشرة، من خلال تنافس ممثليهم المنتخبين وتعاونهم مع السلطة التنفيذية لمصلحة مجموع الشعب.
المشكلة في لبنان ليست في تعدد الانتماءات او الولاءات، فهذا أمر مقبول في الديموقراطيات الحديثة لكن المشكلة تكمن في الصراع الذي قد ينشأ بينها في ظل ديموقراطية غير مكتملة وفي ظل نظام حكم كان يحاول استغلال هذه التناقضات واظهارها على انها غير قابلة للحل او للتعايش.

ربما حان الوقت لانجاز التطور المطلوب من القدرة على المواءمة بين الانتماء للاشكال التقليدية العشائرية او العائلية او الدينية والمذهبية او العرقية الى الشكل الجديد للانتماء للوطن باعتباره المكان الملائم لتحقيق آمال مواطنيه بشكل عادل ومتساوٍ.
وهذا ما حاوله ميشال شيحا باكرا حين دعا الى الاقرار بوجود جماعات ثانوية وسيطة بين الدولة والمواطنين، والتي لولاها لما امكننا الكلام على التعدد. اهمية هذا القول انه يشير بوضوح الى اعتبار الطوائف مؤسسات اجتماعية بالمعنى الذي صاغه ماكس فيبر، اي انها شكل من اشكال التنظيم الاجتماعي الحديث. يمكن اذن اعتبار الانتماء الى طائفة او امتلاك هويات خاصة أمراً ممكناً اذا ظل تحت حدود المواطنية، اي عدم طغيان هذا الانتماء وخلطه او تناقضه مع الولاء للوطن والدولة.
اما ما يحصل الآن فهو تعصب وانتماءات عضوية غالبة وولاء للطائفة وليس للوطن. وينتج عن هذا كله تعبئة وشحن مذهبيان يؤسسان لتنشئة جيل بكامله يتعايش مع هذا الجو الموبوء الذي سوف ينعكس على مستقبلنا لسنوات عديدة.


الهوامش
(1) انطوان مسرة: النظرية العامة في النظام الدستوري اللبناني، المكتبة الشرقية، بيروت، 2005، ص 161.
(2) مسرة: المرجع نفسه.
(3) اريك فروم: الانسان بين الجوهر والمظهر، عالم المعرفة، عدد 140، الكويت.
(4) هشام شرابي: النظام الابوي واشكالية تخلف المجتمع العربي - مركز دراسات الوحدة العربية - بيروت 1992.
(5) حدود الحرية: ايزايا برلين، دار الساقي، 1992، بيروت. Isaiah Berlin: Tow concepts of liberty, Oxford University Press, Oxford


أستاذة في الجامعة اللبنانية

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف