حسن نصر الله صفير
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
د. وائل مرزا
من المفارقات الطريفة أن يكون ممكناً الجمعُ بين رئيس حزب الله والبطريرك الماروني بالطريقة الواردة في عنوان هذا المقال. فالاسم الأخير للأول هو الاسم الأول للثاني.
لكن هذه المفارقة قد تجعل المسافة بين الرجلين أبعد، ويغلب أن تعقّد حلّ المشكلة اللبنانية. ذلك أن سيطرة القيادات الروحية على العمل السياسي في ذلك البلد يمكن أن يعني وجود إيحاءات معينة لدى الرجلين تربط حتى بين الاسم وبين اتجاه النصر القادم من عند الله.. لم يعد ممكناً إذاً بشهادة لبنان الذي يختصر الواقع العربي التفريق بين الديني والسياسي، أو بين الروحي والزمني في صياغة أخرى للعبارة. وحتى بالنسبة لباقي الفرقاء (السنة والدروز) لا يمكن إخفاء الدور الواضح والقوي لرجال الدين في ترتيبات الصراع الراهن، وربما المعركة القادمة. وإن كانوا هنا في مقام من يُوظَّف لا مَن يُوظِّف كما هو الحال هناك. لهذا يبدو الممكن الوحيد سياسياً الاعتراف بهذه الحقيقة ومحاولة التعامل معها بشكل مباشر بعيداً عن التلميحات والإشارات والشعارات. ما يجري في لبنان صراعٌ طائفي بكل ما في الكلمة من معنى. والطوائف الأربعة الأساسية فيه تبحث عن مواقع نفوذ بغض النظر عن الأهداف. فأهداف البعض عقائدية، وأهداف البعض الآخر سياسية ومالية، وأهداف البعض الثالث شخصيةٌ فردية.. وهكذا دواليك. لكن الجميع يتوسل الطائفة في النهاية للوصول إلى أهدافه. والهدف الأكبر من هذا الصراع السياسي الشرس الحاصل هو الحصول على حصةٍ وافية من كعكة الدولة اللبنانية في الحاضر والمستقبل. لاسيما أن لهذه الكعكة مذاقاً أقليمياً وعالمياً يتجاوز حدود لبنان القصيرة.
والذي يبدو واضحاً الآن أن جميع الفرقاء شعروا مع اغتيال الحريري بأن لحظة ولادة الجمهورية اللبنانية الثالثة قد أزفت. إذا ما اعتبرنا أن الجمهورية الثانية كانت جمهورية ما بعد الطائف. من هنا، دخل الجميع في سباق مع الزمن لملء الفراغات الجديدة. وفي سبيل ذلك لم يكن مهماً على الإطلاق الثبات على أي منطلقات ومواقع ومواقف وممارسات سابقة. فاللحظات الاستثنائية تقتضي لدى السياسي البراغماتي سياقاً استثنائياً من التفكير والممارسة يغلب أن لا يكون مضبوطاً بأي قواعد ومحددات.
من هنا بدأت مسيرة المفارقات ولم تتوقف حتى الآن. وتمّ حشر المواطن اللبناني، بل وحتى المواطن العربي بمعنى من المعاني، في زاوية ليختار بين موقفين لا ثالث لهما كما هي العادة بالنسبة لكثير من قضايا الواقع العربي.
فالمعروض الآن ظاهرياً على هذين المواطِنَين حسب الخطاب الإعلامي والسياسي للفريقين وحسب الوقائع هو الاختيار بين نوعين من الوصاية. ذلك أن الرعاية الإيرانية المعلنة والواضحة لحزب الله وحلفائه المفترضين تعطي المشروعية للفريق المقابل للتأكيد على حقيقة وجود الوصاية الإيرانية. ومع وضوح الطموحات الإقليمية الكبرى لإيران في المنطقة يصبح الارتباط الكامل بهذا المحور أمراً يحمل الكثير من المحاذير، ليس فقط على لبنان، بل وعلى المنطقة العربية بأكملها.
من جهة مقابلة. تأتي الرعاية المعلنة والواضحة للإدارة الأمريكية لفريق الرابع عشر من آذار لتعطي المشروعية الكاملة أيضاً لحزب الله وحلفائه للتأكيد على حقيقة وجود الوصاية الأمريكية. لابد هنا بطبيعة الحال من استصحاب الواقعية السياسية. لأن الادعاء بأن دعم وتأييد تلك الإدارة يتعلق بحرصها على لبنان ينسف المنطق السياسي من أساسه. ليس فقط بسبب معرفة الجميع بتمحور السياسة الأمريكية حول مصالحها، بل وفوق ذلك بسبب ما هو معروف عن ارتباط تلك المصالح بالمصالح الإسرائيلية بشكل عضوي. من هنا، يمكن تفسير كرم الساسة الإسرائيليين في تقديم (قُبل الموت) واحدةً تلو الأخرى للسلطة اللبنانية من خلال تصريحات الدعم والمساندة لها مساهمةً منهم في الحفاظ على فتيل التوتر في لبنان. وفي خضمّ الهرج والمرج الذي يتقن ساسة لبنان صناعته، تضيع في المشهد البديهيات ويتم القفز بسهولة على كثير من المفارقات التي تستحق التساؤل على الأقل. كما يسهل تأجيل أي تفكير في استحقاقات يبدو واضحاً أنها قادمة مع تغير الظروف والأحوال.
فمن جهة. يبدو من المضحك المبكي حديث حزب الله عن بحثه لدور للقوى الوطنية الأخرى في لبنان. مع العلم أن تلك القوى الوطنية المفترضة تضم في الأساس نخبةً أساسية من الإقطاع السياسي الذي عرف القاصي والداني حجم فساده المالي والإداري في الماضي القريب. كما يبدو متناقضاً حديثه عن عداء أمريكا في اللحظة التي يجلس فيها عبد العزيز الحكيم أمام بوش طالباً منه إبقاء القوات الأمريكية في العراق من واقع ورقةٍ مكتوبة في مشهدٍ فولكلوري أثار الكثير من التهكم في الأوساط الأمريكية والعربية..
ومن جهةٍ أخرى. يبدو مفجعاً وصادماً حديث تيار المستقبل عن تحالفه مع قوى الاستقلال والحرية. في حين أن شيئاً من الدخول في تفاصيل الأسماء والمواقف سيُظهر أن الحديث يدور أيضاً عن النصف الآخر من نخبة الإقطاع السياسي التقليدية المعروفة إما بإقليميتها المتطرفة أو بارتباطاتها المُعلنة بقوى إقليمية وعالمية بدايةً من سورية وانتهاءً بأمريكا وإسرائيل. كما يبدو مفاجئاً القفز على حقيقة ما سيجري من خلاف وصراع بين أطراف هذا الحلف (المُصطنع) في اليوم التالي لسيطرته على مقاليد الأمور إذا تحقق له ذلك الهدف.
الأكثر إثارة للتعجب هو التهجم المستمر للفرقاء في الطرفين المتصارعين على النظام أو الأنظمة السابقة. والمقصود هنا الحكومات اللبنانية المتعاقبة بعد اتفاق الطائف. علماً أن معظم أولئك الفرقاء كانوا يشكلون بشكلٍ أو بآخر صُلب تلك الأنظمة.
وإذا كان هناك مَن لم يُشارك مثل حزب الله وبعض القوى المسيحية فإن هذه الأطراف إما أنها كانت تدعم تلك الحكومات من الخارج سابقاً أو أنها اليوم تتحالف بشكلٍ غير مسبوق مع مَن كان يمثل محورها سواء على مستوى الرئاسة الأولى أو رئاسة مجلسي الوزراء والنواب. بل إن أكبر مفارقةٍ في مسألة الهجوم على (الحكومات السابقة) التي خربت البلد منذ الطائف هي ما يسميه الأمريكان (الفيل الضخم الموجود في الغرفة دون أن يجرؤ أحد على الحديث عنه بشكل مباشر). إذ هل فكر أحدٌ مثلا في السلطة، وقد صار محورها آل الحريري ونواب تيار المستقبل، أن المرحوم الحريري نفسه هو الذي كان رئيسا للوزراء لمدة عشر سنوات في تلك الفترة؟! هل هناك توافق على السكوت عن دلالات ذلك الاتهام؟ في تفسير الاتهام احتمالان لا ثالث لهما بطبيعة الحال. فلو أن المقصود أن الحريري كان لاعبا أساسيا فاعلا وصاحب نفوذ في الحكم، فهذا يعني اتهامه بأنه كان جزءاً من تخريب البلد. وإذا كان المراد بأن الحريري كان مغلوبا على أمره طوال تلك الفترة، فهذا تصغيرٌ وتحقير لمقام الحريري ووزنه وقيمته. لأنه يَفترض رضاه بهذا الدور (التابع) طوال تلك الفترة. وهو ما يتناقض مع كل ما هو معروف عن الراحل.. ما أكثر عدد الفيلة الضخمة الموجودة في غرفة لبنان الصغيرة!..