أنان في خطابه الوداعي
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
الإثنين 18 ديسمبر2006
خيري منصور
خلال الستين عاماً التي مضت على الأمم المتحدة منذ كانت عصبة حتى أصبحت عصابة لقي الأمناء العامون مصائر مختلفة، وذلك تبعاً للأحداث الجسام التي اقترنت بعهودهم، لكن هذه المهنة الصعبة التي لا تزال حكراً على الذكور شحيحة المسرات، لأن أيام العالم كلها ضراء ما دامت الحروب والاحتلالات وشتى أنماط السطو والغزو لم تتوقف، إلا لكي تضع أقنعة جديدة تبدل بها الأقنعة الامبراطورية القديمة التي اهترأت وانتهت الى المتاحف! ومن المفترض بمهنة الأمين العام للأمم المتحدة أن تكون الأقرب الى أقانيم الشقاء البشري الثلاثة، وهي الفقر والمرض والحرب فالأمين العام أعلم وأدرى بشعاب هذا الكوكب من شماله إلى جنوبه، ومن فائض العسر في قاراته المنكوبة الى فائض اليسر في الجغرافيا الشقراء المحظوظة.
وليس غريباً أن يكون القاسم المشترك بين الأمناء العامين على اختلاف الجنسيات من أعماق إفريقيا الى أقاصي آسيا الى صقيع العالم الجديد هو أن لهم عيوناً محتقنة موشكة على البكاء لفرط ما رأوا وما سمعوا وما اضطروا أحياناً للسكوت عليه لأن العصا أطول من الجزرة.
ويكفي أن اثنين منهم على الأقل تزامنت أيامهم مع قانا الأولى والثانية والثالثة فحكاية بطرس غالي أول أمين عام عربي للأمم المتحدة لم يغمرها النسيان بعد، إذ كان عليه أن يرى في قانا الأولى مجرد خطأ مطبعي، أو مجزرة سقطت سهواً من كتاب الصهيونية الأسود.
إن كوفي أنان في خطابه الأخير، لا يودع مهنته أو زملاءه.. بل يودع القيم والأخلاق الأمريكية التي طالما شهرها البيت الأبيض والبنتاغون في وجه العالم، بالرغم من أن ورثة امرسون وولت وتيمان تنكروا لكل ما قرأوا وورثوا عن الأسلاف، وتناسوا بمرور الوقت وتنامي القوة والنفوذ أنهم عانوا ذات يوم من استعمار بريطاني شديد الوطأة كما تناسوا مفهوم الاستقلال والسيادة، لأن مثل هذه المفاهيم حكر على الأمريكي الذي يسمى ldquo;الواسبrdquo; لشدة بياضه ونقاء عرقه الانجلوساكسوني وبروتوستانتيته! قال كوفي أنان، إن أمريكا كانت صادمة له وللعالم كله بتخليها عن منظومة القيم التي بشرت بها، خصوصاً بعد الحرب العالمية الثانية، عندما وعدت العالم بالحرية. وبحقبة ما بعد الاستعمار وما بعد السطو والفقر والعبودية.
لكن ما لم يقله كوفي أنان لأسباب بروتوكولية هو أن أمريكا ضاعفت الفقر والتجهيل في العالم، وأصبحت الكبسولة العملاقة التي تحتشد فيها نفايات الامبراطوريات الغاربة، لهذا فهي أقرب الى روما من أثينا كما قال تشومسكي.. وربما كانت ولا تزال أقرب الى اسبارطة من المدينتين معاً! لأنها قررت الاحتكام إلى القوة وحدها، ونظرت بازدراء الى كل القيم التي جعلت من ركام الوقائع التي مر بها البشر تاريخاً ذا بصيرة.
بل هدفت الى قتل التاريخ ودفنه، كي يبدأ العالم من الصفر الذي تحدده، لكن السحر يرتد دائماً على السحرة، ولم تكن مجرد مصادفة أن يعاقب مبدعو آلات التعذيب بما أبدعوا، لأن العدالة مهما غيبت تبقى على مرمى صرخة أو استغاثة من ضحية بريئة.
والأرجح أن متوالية الأخطاء التي اندفعت الولايات المتحدة نحوها قد أفسدت على البشرية بأمركة القرن الحادي والعشرين توقعاتهم!