جريدة الجرائد

مصر.. غاب القانون فغابت الأمة

قرائنا من مستخدمي تلغرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك

سمير عطا الله

كنت تطل من القاهرة على كل العالم العربي. وعلى معظم العالم الثالث، وعلى هواجس الدول الكبرى. واليوم تطل في القاهرة من شرفتك فترى 20 مليون بشري يتدافعون، يتزاحمون، يعبرون الشوارع بين السيارات، والسيارات تعبر الجادات بين الناس، وأضواء السير متشابهة، لا تعني حركتها شيئاً لأحد. والقاهرة التي كانت تسمى ذات يوم "مصر"، تتمدد، وترتفع، وتقوم حولها مدن جديدة، وتظل لا تتسع، للآلاف القادمين من الارياف والملايين القادمين من الارحام.

مضت الايام التي كانت فيها مصر تحارب في افريقيا. وتقاتل في اليمن. ويخطب رئيسها في دمشق، وتحاول مخابراتها زعزعة الاردن، واسقاط الحكم المخاصم في العراق. والتحالف مع يوغوسلافيا - والوقوف الى جانب الهند. مصر محكومة بالنظر الى الداخل والداخل ظاهرتان: بورصة مزدهرة وفقراء يمضون العمر في ظلال "الطعمية" والفول الاسكندراني، ويتزايدون بلا تمهل او انقطاع: ستة ملايين انسان في حي شبرا فقط. كان هذا الليلة البارحة. غداً الرقم يرتفع.

ولكن مهما التفتت مصر الى الداخل واعالي النيل واعالي الصعيد والاوقيانوس البشري الذي كان يعرف بالقاهرة، لا تستطيع اغلاق الابواب والنوافذ المطلة على العالم العربي. ففي نهاية الامر هي جارة فلسطين من حدودها الفاترة ابداً، غزة. وقبل ايام شهدت القاهرة مشهداً لم تشهده من قبل: طلاب الازهر يتلثمون ويسيرون منقبين في حرم الجامع والجامعة الكبرى، ويشبه لثامهم الاسود اللثام الذي يضعه بعض الذباحين في العراق عندما يخرجون الى خطف الرهائن وذبحها، بعد ان يلفوا العنق المحزوز، ببيان يبدأ باسم الله الرحمن الرحيم واكرر: الرحمن الرحيم.

وعين مصر على لبنان، وقلبها معه، وفي الصيف خرجت الى الشوارع ترفع صور حسن نصرالله وتهتف له وتقدمه على جميع العرب، فهو الرجل الذي يمثل اول انتصار عربي منذ 1948. وهو ثأر النكسة، لقد حرر الجنوب بالتفوق القتالي لا بالتفاوض حول طاولة يتصدرها رئيس اميركي. لكن مصر وصحفها حائرة اليوم. بطل الصيف تتجمهر جموعه في ساحات بيروت وتطالب بحصة من الحكومة وتتحالف مع جنرال لم يكف عن القتال في الداخل الى جانب كل فريق او اي فريق، يريد المقاتلة والنزال، من بشير الجميل الى مقاتليه.

يغلي شيئان في مشاعر المصري: العراق وفلسطين ويحيّره لبنان ويقلقه، وترتفع في ميدان طلعت حرب وسليمان باشا لافتات دعائية ضمنها: "طيران مباشر الى بغداد". ولكن من الذي يريد ان يطير الى بغداد اليوم؟ وفوق، ذلك "مباشرة" دون توقف. لقد عاد العمال والفلاحون المصريون من عراق صدام حسين بعد تحرير الكويت جثثاً في صناديق. وهذا ما يحدث للفلسطينيين الآن في سياب العراق. فهم هناك موضع ظن وشكوك. انهم يريدون ترجيح الترتيب الديموغرافي. وهذه مسألة عزيزة في العالم العربي، فأنت لست بعد في فرنسا، حيث يصبح البروتستانتي الاقلي ميشال روكار او ليونيل جوسبان رئيساً للوزراء. انت في عالم يحمل فيه كل فريق جماهيره وينزل بها الى الخنادق البشرية، ويقيم لها مخيمات تضمن الاستمرار. وكل مخيم له الوانه واغانيه.

أدى غياب دولة القانون في العالم العربي الى قيام طغيان الفوضى وعودة الثأر القبلي، والى جنابكم ما أقصد بذلك: اقصد عندما يغيب القانون والقضاء وتقع جريمة ما، يضطر اهل القتيل الى البحث عن القاتل بانفسهم. ولهم في ذلك غريمان: القاتل ذاته والقاضي الغائب، ولذلك يجري الاحتراب بالجماهير والقتلى، ففي بغداد يفجر مفجر (أو أكثر) نفسه بأربعين قتيلاً، فيفجر آخر نفسه بثمانين. والمفجران يملكان اقتناعاً واحداً. انه ذاهب الى الجنة" سواء أكان من هنا ام من هناك"، بينما ضحاياه لم تفتت اشلاؤها فحسب، بل هي ايضاً ذاهبة الى الجحيم. ولا حاجة الى ديّان. لقد ابلغ ان النتيجة محسومة سلفاً.

في غياب القانون. ودعوني اشرح اولاً ما هو القانون دون العودة الى الكتب: القانون توافق اجتماعي على نظرة واحدة الى الخطأ والصواب ورؤية واحدة للخط - او الصراط - المستقيم، لذلك لا خلاف عليه، الخلاف فقط على ثبته. فعندما يستأنف المرء او يميز، يفعل ذلك ضمن القانون نفسه، لا ضمن قانون مناقض. فماذا يحدث في غياب القانون او النظرة اليه. يحدث، جنابك، الآتي: تطالب المعارضة في لبنان بانتخابات مبكرة على انها شرط وجودي، وتطالب حليفتها الفكرية والسياسية في فلسطين برفضها، على أساس ان قيامها يفضي الى الحرب الاهلية. هنا رفض الانتخابات المبكرة سبب للحرب الاهلية وهناك الدعوة اليها هي السبب.

في الحالين، الاستكبار السياسي والاستعلاء هو السبب. اما القانون فلا وجود له، اللهم الا في الشروح الدستورية القاطعة التي يقدمها الرئيس اميل لحود على نحو شبه يومي. وعندما برر ملاحظاته المفاجئة على المحكمة الدولية في دراسة من ثلاثين صفحة، قال انه لم يكن "ملّماً" في السابق بالامر. واستخدام الاهلّة او المزدوجين هنا، هو للتأكيد ان المصطلح مأخوذ بحرفيته من مرحلة الالمام التي دخل اليها رئيس الدولة في السنة الاخيرة من سني جمهورية القانون.

كان والدي، على تواضع شأنه، دستورياً. وقد كان في لبنان شيء يدعى الكتلة الدستورية تمييزاً عن "الكتلة الوطنية" التي كانت توالي فرنسا. والتحق الوف اللبنانيين بـ"الدستورية" من غير ان يعرفوا شيئاً عن نصوص الدستور سوى انه القانون الذي يحميهم ويحمي مثلهم وقيمهم الجمهورية. ولاذ بسطاء لبنان بالدستور لانه ميزان القانون وموازن الحياة الوطنية. وكان الدستور شرطاً لقيام الامم. ومن اجل ان يضمن عبدالله السالم مكاناً وموقعاً لبلده الصغير الحديث الاستقلال، ذهب الى اشهر مشرّع دستوري في العالم العربي، السنهوري، وطلب منه ان يضع دستوراً للكويت. وكان السنهوري قد وضع دستور مصر في العشرينات. وفي العام 1954 طلبت منه الثورة ان يضع تعديلا دستورياً لمصلحتها فرفض. فأرسلت اليه المخابرات زعراناً يضربونه. وقامت تظاهرات مدبرة في القاهرة تهتف بالغباوة الانقيادية المشهورة: لا حرية ولا دستور.

وقرر جمال عبد الناصر وهو يومها اقوى رجل في تاريخ العرب منذ الفتح الاول، ان يعود السنهوري في المستشفى. ووقفت زوجة السنهوري في الباب وقالت لزوجها: اياك ان تستقبل هذا الرجل. انه لا يحترم القانون!

ذهبت ازور الدكتور اسامة الباز، المستشار السياسي للرئيس حسني مبارك، واكثر الرجال اطلاعاً على مرحلة ربع القرن الاخير. وقال ان غياب الحل الشرعي الفلسطيني يخلخل كل شيء. وان الاسرائيليين يخافون السلام ولا يريدون سوى السيطرة. وروى ان الرئيس الراحل حافظ الاسد سأله مرة: "الى اي حد هناك اسرائيليون يريدون السلام حقاً".

واشار الى حادثة اسماعيل هنية عند معبر رفح، وقال: ما هو شأن اسرائيل بما يحمل الرجل من مال؟ انه ليس مالاً مهرّباً. فقد صرح للسلطات المصرية بما يحمل! وقلت للرجل الذي يتنقل في الباص والمترو ومشياً على القدمين في القاهرة، ولا يحيط نفسه حتى بمرافق، ويرافق ضيوفه حتى باب الحديقة الخارجي، قلت له، ماذا لو تصرف اسماعيل هنية كرئيس وزراء ورجل دولة؟ ماذا لو ذهب الى المصرف المركزي المصري وقال معي مال للشعب الفلسطيني واريد تحويله؟ لماذا وكيف يجوز للمسؤولين العرب ان يحملوا مال الناس - او اي مال - في الحقائب؟ ولماذا يعطى رئيس الوزراء هبة نقدية وليس شيكاً من خزانة مالية الى اخرى؟ لماذا يحاكم رئيس اسرائيل بتهمة التحرش بامرأة وليس هناك قانون ينظم نقل اموال الناس في العالم العربي؟ ولماذا هناك دول عربية لا تزال دون موازنة تعرض للناس؟ وكيف يقول زعيم ليبيا انه قرر منح الفقراء ستة مليارات دولار: من اين هذا المبلغ؟ من يمون على صرف ستة مليارات دولار حتى للفقراء؟ وكيف يقول رئيس السودان انه ليس صحيحاً ان عدد قتلى دارفور 50 ألفاً. انهم فقط (لاحظ فقط) تسعة آلاف؟ كيف لا يقيم رئيس دولة الدنيا بسبب مقتل عشرة من مواطنيه؟ ما هذا الهدر المالي والبشري في العالم العربي. متى نعود الى القانون؟ ومتى تقوم دولته فيكون للعرب حياة بدل كل هذا الموت الهبائي المخمور؟

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف