جريدة الجرائد

موسكو ولندن .. عداوات قديمة وتداعيات جديدة

قرائنا من مستخدمي تلغرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك

كوينتن بيل ـ الفاينانشيال تايمز


قصة التسميم المميت للإلكسندر ليتفينيكو، الضابط السابق في "كيه. جي. بي" أصبحت أكثر تعقيداً. فمهما كان القتلة، فإن آثار البولونيوم، المادة التي استخدمت في قتله، تقود بشكل ثابت إلى موسكو. ومن المتوقع أن تؤدي القضية إلى تعقيد العلاقات المتردية أصلا بين بريطانيا وروسيا.
إنه تحول استثنائي في المزاج الذي ساد عندما جاء فلاديمير بوتين إلى السلطة عام 2000 وسارع توني بلير إلى سانت بطرسبرج لتلبية دعوة الرئيس الروسي بالوكالة إلى الأوبرا. ولأن بوتين لم يكن قد انتخب في ذلك الوقت، شعر الكثيرون بأن إشارة رئيس الوزراء البريطاني أظهرت تعجلاً غير لائق لأن يكون أفضل رفيق له.
العلاقة في هذه الأيام أشبه ما تكون بالعلاقة بين عاشقين نبذ أحدهما الآخر، لكنها تمضي إلى ما هو أعمق. ويحذر سيرجي لافروف، وزير الخارجية الروسي، من أن "التسييس" البريطاني لقضية ليتفينيكو، ربما يضر بالعلاقات الثنائية. وفي الجانب الآخر ينطلق الإعلام البريطاني في نبش فضيحة تجسس قديمة، مع فرصة لكتابه الكثير من القصص المناهضة لروسيا.
وبالأمس كشفت "فاينانشيال تايمز" أن توني برينتون، السفير البريطاني في موسكو، تعرض طيلة الأشهر الأربعة الماضية لحملة من المضايقات العلنية من قبل قوميين روس شبان، مرتبطين ارتباطاً وثيقاً بالكرملين. ويتعقب المفتشون الروس المركز الثقافي البريطاني، الذراع الثقافية للحكومة البريطانية، من أجل الضريبة أولاً، والآن بالنسبة لأنظمة الحريق. ويجري التشويش على إذاعة "بي. بي. سي". وهذا الأمر المنذر بالشؤم أشبه ما يكون بالأيام السيئة السابقة للحرب الباردة.
لكن وراء مثل هذه الحكايات المؤسفة للمواقف المتمسكة بعناد بالمعتقدات البالية والتغوّل التافه، يكمن تحول آخر هو بروز لندن نقطة جذب للروس حديثي الغنى. فلا أحد يعرف عددهم (لم يعد عليهم أن يسجلوا لدى السفارة الروسية)، لكن التخمين يدور حول 250 ألفاً. وهم يتحدثون الروسية حتى وإن لم يكونوا جميعاً مواطنين روساً.
ومن المؤكد أنهم ليسوا جميعاً ناقدين بشدة للكرملين، فالأغلبية الساحقة راضية جداً عن بوتين بسبب الاستقرار والرخاء اللذين حققهما لهم. ويجيء معظمهم إلى لندن لإنفاق أموالهم، وللتسوق في الويست إند، وشراء الممتلكات في هامبستيد، وإرسال أبنائهم إلى المدارس الداخلية والجامعات البريطانية.
ويبدو من الحمق الشديد أن تكون العلاقات الدبلوماسية بمثل هذا السوء في وقت أصبحت العلاقات الشخصية المتبادلة بين المواطنين أسهل بكثير. لكن هذا جزء من المشكلة التي تعقد علاقة قديمة شائكة بين الإمبراطوريتين السابقتين، تعود إلى ما قبل الثورة الشيوعية.
يقول أكاديمي روسي بارز في بريطانيا، وهو لاجئ من الجيل الثاني: "هناك ذاكرة تاريخية جماعية تعود على الأقل إلى 'اللعبة الكبيرة' ومن المدهش أن الأمر مستمر في النفسية الروسية". وكان ذلك الأمر هو التنافس الكبير في القرن التاسع عشر بين الإمبراطوريتين على السلطة في آسيا الوسطى. وكانت هزيمة السوفيات في أفغانستان تذكيراً مقيتاً، لكن هناك الآن شماتة في موسكو لمشهد الجنود البريطانيين الذين يغوصون في المستنقع في المكان نفسه.
وربما تكون هذا البداية، لكن العلاقة البريطانية طوال السنوات السوفياتية أثبتت أنها شائكة بشكل خاص. فقد كان جوزيف ستالين يكره رؤية العلم البريطاني يرفرف فوق السفارة البريطانية عبر نهر موسكو، قبالة الكرملين، وأقسم على نقل المقر البريطاني من مكانه. وفي السنوات اللاحقة كانت "كيه. جي. بي" تخشى من أن يكون البريطانيون يتنصتون على محادثات قادتها. لكن مارجريت تاتشر أقنعت ميخائيل جورباتشوف بإبقاء السفارة في مكانها.
وكانت بريطانيا مسؤولة عن أكبر عملية طرد للجواسيس السوفيات: طردت 105 أشخاص عام 1971. وكانت هناك دائماً عمليات ثأر؛ واحدة بواحدة، لكن الروس في تلك المناسبة لم يجدوا ما يكفي من المشبوهين البريطانيين لطردهم. وحدث ذلك مرة أخرى عامي 1985 و1989.
لكن خلال الحرب الباردة كان هذا الأمر متوقعاً. فقد كان هناك شخص يتجسس، وإذا ضبط فإن واحداً يدفع الثمن. كانت المشاعر غير ودية، لكنها الآن أكثر ضبابية وأقل قابلية للتكهن بها. فالأمر يتعلق بالأموال والسلطة أكثر مما يتعلق بالأيديولوجية.
وهناك شيئان أضرا فعلاً بقصة الود بين بلير وبوتين. الأول، العراق. فقد انضم الزعيم الروسي بتباه إلى الرئيس الفرنسي جاك شيراك والمستشار الألماني جيرهارد شرودر في معارضة الخطط الأمريكية والبريطانية. واعتبر بلير الموقف أمراً شخصياً.
والثاني، منح اللجوء عام 2003 لعدوين بارزين للكرملين: بوريس بيريزوفسكي وهو منفي كان مؤيدا لحكومة القلة، وأحمد زاكاييف المتحدث باسم باسم الانفصاليين الشيشان. ويظل هذا الأمر مصدراً كبيراً للخلاف في العلاقات الثنائية، ويثيره بوتين في كل مرة يلتقي فيها مع بلير. والمسؤولين الروس لا يمكن أن يتقبلوا أن مثل هذه القرارات قانونية وليست سياسية، وقد قدموا طلبات تسليم بلغة قاسية لكنها فشلت، فهم لا يدركون المفهوم البريطاني لسيادة القانون.
وهذا يعيدنا إلى الروس في لندن، ويقول أحدهم: "إننا نرى بريطانيا مكاناً مريحاً، خصوصاً عندما لا تكون عبئاً على دافع الضرائب". لكن هناك أسباباً أكثر قوة لمجيئهم، فالأمر يتعلق بطبيعة القانون البريطاني الذي لا يستند إلى مفاهيم حقوق الإنسان بل إلى حقوق التملك. ففي روسيا لا يوجد أي أمن للملكية حتى في هذه الأيام. ولا عجب في أن لندن نقطة جذب لحديثي الثراء. لكن المشكلة أنهم كما يبدو لن يقولوا لبوتين إن السبب يعود بالتحديد إلى سيادة القانون في لندن التي يجدونها جذابة جداً. وإذا أمكن له أن يدرك ما يعنيه هذا فإن العلاقات قد تكون أفضل بشكل كبير.

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف