هل يعاود بوش صياغة إستراتيجية كاملة انطلاقاً من إيران؟
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
راغدة درغام
دعا الرئيس جورج دبليو بوش الأميركيين الى الاستعداد "لتضحيات اضافية" في عراق عام 2007 ولدفع كلفة "تأمين السلم" و"المضي في الحرب"، متعهداً بأن الولايات المتحدة لن تفشل ولن تتراجع ولن تصبح انعزالية. قال ان عواقب التقهقر الأميركي ستكون باهظة الثمن و"ستجعل من الأجيال الأميركية المقبلة ضحية دائمة للتهديد والخطر"، وستؤدي الى استقواء التطرف والارهاب على الديموقراطيات الناهضة في منطقة الشرق الأوسط. الثمن الذي يتحدث عنه الرئيس الأميركي ليس مالياً فقط انما الكلفة المالية بحد ذاتها مدهشة ستتجاوز التريليون دولار وستفوق أية فوائد مالية يأتي بها النفط العراقي لثلاثين سنة آتية، وبأضعاف. إذاً، ان "الاستثمار" في حرب العراق من الآن فصاعداً ليس من أجل مصالح اميركية مادية وانما هو حرصاً على هيبة الولايات المتحدة واصراراً من جورج دبليو بوش على الانتصار في الحرب القائمة بين الايديولوجيات. انه يقوم الآن بفرز شامل للخيارات العسكرية والسياسية ويريد تبني استراتيجية "النجاح" في الجمع بين الناحية الأمنية وبين العملية السياسية في المعارك المختلفة في العراق وفلسطين ولبنان. لكن بوش سيواجه معارضة ومقاومة من بعض الأميركيين لاعتماده هذا النهج بدلاً من نهج الانسحاب الأقل كلفة من العراق.
فكثير من الأميركيين لا يريد دفع ثمن نهوض ديموقراطيات عربية أو ثمن إلحاق الهزيمة بقوى التطرف والراديكالية نيابة عن الشعوب العربية، ولا يريد أن يتحمل هموم مآس أو طموحات المنطقة العربية. هذا البعض يريد الانعزالية لأميركا بدلاً من دفع ثمن إسقاط أنظمة، ويريد لأهل المنطقة العربية أن يحاربوا حروبهم بأنفسهم ويدفعوا هم كلفة حسم الخيارات بين ايديولوجية الكراهية والتدمير وايديولوجية الحرية والديموقراطية. فلتستعد المنطقة للأمرين الواردين: اما تعزيز التواجد العسكري والدور الأميركي أو انحساره لتتخبط المنطقة بمفردها في حروبها الايديولوجية والقومية والأهلية وتدفع هي الثمن الباهظ.
إذا اصر الرئيس الأميركي على تعزيز وتفعيل الدور الأميركي في الشرق الأوسط، عليه أن يفكر أولاً من منطلق ماذا أمامه من خيارات نحو ايران، وأية سياسات ستؤدي الى تقوية النظام في طهران اقليمياً، وأية منها قد تضعف عزيمة هذا النظام على الهيمنة.
قد يكون الخيار العسكري أقل الخيارات فائدة لأنه سيخدم الجمهورية الاسلامية في حشد الجماهير الاسلامية معها في حملة العداء التي تقودها ضد الولايات المتحدة الأميركية وترسم نفسها ضحية العدوان الأميركي. لربما في ذهن الادارة الأميركية القيام بقصف محدد لمواقع معينة لضرب مفاعل نووية، انما ليس في حساباتها، أي ما يشابه الغزو أو الاحتلال كما فعلت في العراق. والأرجح انها لن تلجأ الى الخيار العسكري الا إذا اضطرت لذلك.
أمامها خيار الانسحاب الفوري والكامل من العراق بما يترك العراق جاراً مخيفاً جداً لايران ويترك وراءه ورطة ايرانية داخل العراق. فغزو العراق واحتلاله شكلا هدية اميركية ثمينة لايران سيما وأن سلطات الاحتلال الاميركية دمرت الجيش العراقي بعدما أطاحت بنظام صدام حسين، وقوّت حلفاء ايران داخل العراق، وجعلت من مناطق عديدة في العراق ساحة آمنة للنفوذ الايراني القاطع. فإذا انسحبت القوات الأميركية بأسرع ما يمكن من العراق، فإنها ستترك ايران في مأزق، وستحرر الولايات المتحدة من مستنقع العراق لتتمكن من استعادة الهيبة والعظمة. ستتمكن الادارة الاميركية عندئذ من اتخاذ مواقف صارمة من طهران بلا خوف من انتقام ايراني ضد القوات الاميركية في العراق.
الانسحاب الاميركي من العراق سيكون مفيداً للاقتصاد الاميركي ايضاً اذ أن البقاء هناك لخوض الحرب التي يريدها الرئيس الاميركي سيكلف الموازنة الاميركية والاقتصاد الاميركي باهظاً. حتى الآن، ان كلفة الحرب المباشرة منذ أن بدأت قبل ما يقارب أربع سنوات بلغت 300 بليون دولار. لكن الكلفة الكاملة التي تأخذ في حسابها اعادة تأهيل حوالي 23 ألف جريح حرب واستبدال المعدات الحربية وغيرها تبلغ، حسب قوى الخبير الاقتصادي المخضرم هاني فندكلي، حوالي تريليون دولار، أي ألف بليون دولار، تساوي الدخل القومي السنوي للصين وأربعة أضعاف الدخل القومي السنوي السعودي.
فإذا كان النفط العراقي هو مبرر الاستمرار في هذه الحرب، قالمنطق الاقتصادي يثبت، حسب فندكلي، ان 40 سنة من النفط العراقي لن تعوّض تكاليف الحرب حتى الآن، وأن البقاء في العراق لسنتين أو ثلاث، بكلفة مباشرة تبلغ حوالي 150 الى 200 بليون دولار سنوياً، سيضاعف الكلفة الاجمالية الى 2 تريليون دولار. أي ان على الولايات المتحدة ان تبيع النفط العراقي لفترة 80 سنة للتعويض عن تكاليف الحرب.
لذلك، فـ"خسارة" الولايات المتحدة للعراق في الاعتبارات النفطية لم تعد تعتبر خسارة مالية فادحة لأن حرب العراق طالت وضاعفت تكاليفها ودحضت منطق الاستثمار في "حرمان" الصين وروسيا من الفوائد النفطية. ثم ان أمام أية ادارة اميركية وسائل أخرى لتطبيق "الحرمان" في الحروب النفطية، اذا اضطرت، وهي في ضرب حصار على مضيق هرمز علماً بأن الاساطيل الاميركية وحاملات الطائرات متفوقة لدرجة ان الصين تحتاج الى 20 سنة لتعادلها، حسب الخبراء. أي، ان الولايات المتحدة ليست في حاجة الى غزو ايران بل الأرخص لها ان تنسحب من العراق وتضرب حصاراً بحرياً يشل ايران ويحجم طموحاتها الاقليمية والنووية، اذا أرادت ان تتصرف بحزم وبتصعيد.
يمكن لجورج دبليو بوش ان يصمم على طرح الموضوع الايراني بجدية بالغة في معادلة العلاقات الاميركية الثنائية مع الصين وروسيا اللتين تشكلان تحالف الأمر الواقع الذي يحمي ايران من المحاسبة. ويمكن له أن يجلس مع قيادات دول نفطية عربية مهمة لوضع استراتيجيات اقتصادية مشتركة بعيدة المدى نحو الصين بالذات باعتبارها مستورداً نفطياً رئيسياً. كذلك، في وسعه ان يتحدث بلغة المصالح الاميركية العليا عندما يبحث الأمر الايراني مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين انما بشراكة مع القيادات العربية لبحث تفاصيل التعويض عن استفادة اقتصادية واستراتيجية من العلاقة الروسية - الايرانية. وهذا أصعب، انما ليس مستحيلاً.
فالمغامرات الايرانية في المنطقة ستؤدي الى نسف أي استقرار فيها وهذا بدوره سيؤدي الى انهيار الاقتصاد العالمي. وبالتالي، حان وقت التحدث بلغة تأثير ذلك على المصالح المباشرة لكل من روسيا والصين. حان الوقت لحديث مطوّل مع تركيا، كما مع قطر، حول افرازات التوافق مع ايران على العلاقات الثنائية. حان وقت حشد سياسة اوروبية فعالة بحيث تضع في موازينها ماذا عليها ان تفعل إزاء عضوية تركيا في الاتحاد الأوروبي إذا أرادت الحؤول دون وقوع تركيا في الأحضان الايرانية.
بريطانيا تريد أن تلعب دوراً ناشطاً، كما أوصى رئيس وزرائها توني بلير، انما لا يمكن لهذا الدور ان يكون ارتجالي الاسلوب ومتقطع الفحوى. فايران لها خطوط ممتدة في فلسطين ولبنان وليس فقط في العراق وهي تستخدم القضية الفلسطينية بشراكة مع سورية للإملاء من الخارج على الفلسطينيين تحت الاحتلال ولتأجيج العداء لرئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس الذي دعا هذا الاسبوع الى انتخابات مبكرة، رئاسية وتشريعية.
بريطانيا، وأوروبا معها، لم تعدل مع الفلسطينيين ولا مع الرئيس الفلسطيني. حجبت الضغوط عن اسرائيل ورئيس وزرائها ايهود اولمرت وتظاهرت بأن المشكلة بكاملها تقتطن في الناحية الفلسطينية من المعادلة. فإذا كان توني بلير جدياً الآن، في وسعه ان يقنع القيادات الأوروبية وصديقه في واشنطن، جورج دبليو بوش، بأن الوقت حان لمطالبة اولمرت بالعودة الفورية الى المفاوضات مع محمود عباس وأن يحمل معه خطة واستعداداً حقيقياً للتفاوض السريع. فلا يكفي الاكتفاء بمجرد اللقاء أو بتحرير أموال الضرائب الفلسطينية. لا يكفي بيع الكلام ومضغ المواقف السابقة. ان المرحلة الراهنة تدعو الأوروبيين والاميركيين الى المطالبة بحزم وإصرار من الاسرائيليين أن يكفوا عن التظاهر بأنهم أبرياء من صنع التطرف العربي والاسلامي، عمداً مثلما صنعوا "حماس"، وافرازاً عندما تمسكوا بالاحتلال في فلسطين وغامروا به في لبنان.
فدعم الاعتدال الفلسطيني يتطلب اقدام واشنطن والعواصم الأوروبية على مطالبة اسرائيل ايضاً بتنفيذ التزاماتها بموجب "خريطة الطريق" التي وضعتها "اللجنة الرباعية" المكونة من الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة وروسيا، وليس مطالبة حكومة "حماس" فقط بتنفيذ ما يخصها من التزامات. والا، لتتراجع "الرباعية" بصورة أو بأخرى عن شروطها على "حماس" طالما هي غير قادرة على تنفيذ مبدأ "التبادلية" التي زعمت اعتناقها له.
يجب على "الرباعية" ان تمكّن الرئيس الفلسطيني عبر تقويته بأوراق جديدة تبني على ما زعمته قيادة "حماس" من استعداد للقبول بهدنة من 20 سنة اذا وافقت اسرائيل على قيام دولة فلسطين في حدود 1967. الاسرائيليون اغبياء لو رفضوا ذلك، و"الرباعية" جاهلة لو لم تسرع الى تعزيز محمود عباس الآن كي يتمكن من إعادة "حماس" الى البيت الفلسطيني بدلاً من تعميق وقوعها في الحضن الايراني - السوري.
اما اذا كان رئيس الحكومة اسماعيل هنية يراوغ وان كان تعهد حقاً لايران وسورية بالتحالف معهما مهما كان، على الرئيس محمود عباس ان يعلن حالة طوارئ فوراً، وأن تنزل قوات الأمن للسيطرة على الأرض ووقف الاقتتال الفلسطيني - الفلسطيني. يجب أن يشكل حكومة طوارئ وأن يضمن تجهيز قوى الأمن الفلسطينية لتتمكن من السيطرة على الوضع الأمني. فهذا ليس وقت انصاف الخطوات، لا لمحمود عباس ولا للادراة الاميركية اذا كانت حقاً عازمة على نقلة نوعية في الملف الفلسطيني لانتشاله من الرئيس الايراني محمود احمدي نجاد الذي جعل منه شعاراً للتحريض ضد الولايات المتحدة بسبب سياساتها غير العادلة نحو الفلسطينيين.
هذا يتطلب من جورج دبليو بوش ان يرفض النصائح الاسرائيلية القائلة بأن في الوسع فصل سورية عن ايران، واقناع دمشق بقطع السلاح عن "حزب الله" في لبنان وتقديم الضمانات لها ببقاء النظام تحت أي ظرف كان وبأي ثمن كان لتمنع قيام نظام اسلامي في سورية قد يفتح الجبهة السورية مع اسرائيل. فدمشق باتت الآن في علاقة معمقة مع طهران والعاصمتان طرفان في محور يضم ايضاً "حزب الله" و"حماس". ثم ان العلاقة بين القيادة السورية وبين قيادة "حزب الله" باتت الآن أعمق بسبب تحالفهما ضد المحكمة الدولية لمحاكمة المشتبه بتورطهم في اغتيال رئيس الوزراء اللبناني السابق رفيق الحريري ورفاقه وفي الاغتيالات السياسية الأخرى التي يثبت ارتباطها بهذه الجريمة الارهابية.
فأهم ما تريده الحكومة السورية هو الغاء بند من النظام الأساسي للمحكمة الدولية ينص على مسؤولية الرئيس وليس فقط المرؤوس الذي نفذ الجرائم الارهابية وكذلك البند الذي يتحدث عن منهجية الجرائم بما يجعلها مؤهلة، عملياً، لاعتبارها جرائم ضد الانسانية. وأهم ما جاء على لسان السيد حسن نصر الله، الأمين العام لـ "حزب الله"، هذا الاسبوع رفضه الربط بين الاغتيالات أمام المحكمة واعترافه بأن هذا هو سبب سحب وزرائه من الحكومة. وطهران تحميمهما معاً من المحكمة والمحاكمة.
فإذا كان جورج دبليو بوش مستعداً لخوض هذه الحروب المتعددة في منطقة الشرق الأوسط لا بد وأنه سيأخذ في حسابه كلفة البقاء في العراق وكلفة الخروج منه. انما ما عليه ان يحسمه حقاً ليس تلك الحرب على الارهاب والتطرف والمعارك الايديولوجية بين ما يسميه الكراهية والحرية. عليه اولاً ان يضع على طاولة التخطيط الاستراتيجي سيناريوهات واقعية لكيفية التعاطي مع ايران.