فلسطين على حدّ السكين
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
د. رضوان السيد
كأنما ما كفى حركة "حماس" ما حدث ويحدث بينها وبين "فتح" في غزة، فجاءتْها نصيحة الدكتور أيمن الظواهري "الثمينة"، والتي تُنكرُ عليها المشاركة في الانتخابات وفي السلطة في ظلّ الاحتلال، والتذكير بأنها في الأصل حركةٌ جهاديةٌ، وينبغي أن تبقى كذلك إلى أبد الآبدين، وإلاّ خانت الأمانة والرسالة! فالجهاد عند الظواهري حرفةٌ أو طبيعةٌ ثانيةٌ ليس للمرء حيلةٌ في الخلاص منها، وليس أداةً لهدفٍ تنتهي بتحقُّقه، أو بانتهاج وسيلةٍ أُخرى من أجل بلوغه. بيد أنّ ما قاله الظواهري يتضمنُ بعضاً من الحقيقة بالنظر لأُصول المسائل ومآلاتها. إذ لا يستطيع تنظيمٌ جهادي أن يتسلَّم السلطة، ويظلَّ في الوقت نفسه حركة تحرير، بل المفروض ألا يسعى للوصول إلى السلطة إلاّ بعد التحرير. ومن أجل ذلك ما شارك تنظيم "الجهاد الإسلامي" المتشدد في الانتخابات الفلسطينية.
إنّ أيَّ حكومةٍ منتخَبة تُصبح مسؤولةً ليس عن صَون المصالح الاستراتيجية لشعبها فقط؛ بل وعن صَون أمنه، والعمل من خلال المؤسَّسات الدستورية تحقيقاً لذلك. والواقع أنّ حركة "حماس"، وباستثناء المشاركة في الانتخابات، وتسمية وزرائها لمناصبهم، ما تصرفت تصرفَ من يعتبر نفسَه مسؤولاً عن الأمن أو المصالح. وعذرُها في ذلك أنها حوصرت. وقد ردَّت على ذلك ليس بالانسحاب والعودة إلى مواقع الجهاد والثورة؛ بل بقصْر اهتمامها على حماية تنظيمها، واستجلاب الأموال له، وتعيين قواها الأمنية الخاصة إلى جانب القوى الأمنية الموجودة.
وهكذا -وبخلاف سلوك منظمة التحرير الفلسطينية وفصائلها الرئيسية- وجدتْ نفسها داخلةً في تحالُفٍ إقليميٍ يواجهُ تحالُفاً إقليمياً ودولياً آخَر، وصارت لها مهمتان جديدتان بالإضافة إلى مهمة كل الفلسطينيين. مهمة كل الفلسطينيين كانت دائماً (أو منذ بدء الكفاح المسلَّح أواسط الستينيات): تحرير الأرض وإقامة الدولة. وقد أضافت "حماس" لذلك ضرورةً أو اختياراً: خدمة مصالح التحالُف الداخلة فيه، ومصارعة الفلسطينيين الذين يعارضونها بالسلاح، وليس عن طريق التنافُس معهم على قاعدة من هو الأكفأ والأَوْلى والأقدر على حفظ مصالح الشعب الفلسطيني، وبالتالي الاستمرار في الحصول على دعمه أو دعم أكثريته في الانتخابات والقرارات اللاحقة.
إنّ الصراع الدائر في فلسطين بين "فتح" و"حماس" ليس صراعاً عادياً على السلطة، ولا يُشبه الصراعات التي كانت تدور بين "فتح" والجبهة "الشعبية" أو "الديمقراطية" في لبنان أو الأردن أو الضفة الغربية. تلك كانت صراعات على السلطة والنفوذ؛ أمّا هذا الذي يدور فيختلفُ عن ذلك كلّه. إذ كلُّ الحركات الإسلامية الراديكالية (والمسلَّحة)، و"حماس" و"الجهاد الإسلامي" منها؛ هي حركاتٌ انشقاقيةٌ من الداخل المجتمعي والسياسي، وعنه. إنها لا تتميز بالتنظيم القوي والقاسي فقط؛ بل وبأنها تريد نسْف الواقع السياسي والاجتماعي وبالقوة إذا اقتضى الأمر، وفي الداخل قبل العدوّ. وقد حسب كثيرٌ من المراقبين أنّ ظروف الفلسطينيين الواقعين جميعاً تحت الاحتلال، تُعطي خصوصيةً للتنظيمات الإسلامية الفلسطينية، لا تشاركُها فيها الحركات الراديكالية الأخرى مثل تنظيم "القاعدة" أو تنظيم "الجهاد" الذي كان الظواهري يتزعمه. أولئك لا يملكون مشروع دولة، ولا يضعون في اعتبارهم إمكان الوصول إليها.
ولذلك فعندما حلُّوا بأفغانسْتان تركوا السلطة لـ"طالبان"، وقادوا هم الجهاد العالمي. فهم ليسوا حركة تحريرٍ عادية، ولا تهمُّهم أفغانسْتان أو الصومال إلاّ باعتبارهما منطلقاً للجهاد ضد الولايات المتحدة هذه المرة، أو ضدّ من يعتبرونه عدواً للدين. ولذلك فهم عندما يتحدثون عن فلسطين -وما كانت طوال عقدٍ وأكثر بين أولوياتهم- لا يذكرونها، بل ولا يذكرون إسرائيل؛ بل يذكرون اليهود والصليبيين. إنهم مجاهدون محترفون للجهاد، وثوارٌ محترفون للثورة، ولا تهمُّهم الجغرافيا كما تُهمُّ القوميين، كما لا يهمُّهم كيانٌ محدَّدٌ أو دولة محدَّدة؛ بل الفكرة بحدّ ذاتها، والنضالُ بحدّ ذاته، والاستشهاد بحدّ ذاته.
ولستُ أعني هنا أنّ حركة "حماس" مثل "القاعدة" من حيث الأهداف؛ فهي تريد بالفعل تحرير فلسطين. ولذلك فقد طوَّرت في مسلكها التنفيذي، لكن دون أن تُطوِّر في توجهاتها العقائدية. ظلت التوجهات الاعتقادية نضالاً ضد الكفر، بينما صار سلوكُها العمل المسلَّح من أجل التحرير. وما شاركتْ "حماس" في العمليات الانتخابية من قبل، لأنها ظلّتْ أمينةً لخيارها الأيديولوجي الشمولي. وقد أثّر ذلك حتى في تكتيكاتها العسكرية عندما صارت العمليات الانتحارية أو الاستشهادية، كما يُسمُّونها، أسلوباً أساسياً في الكفاح المسلَّح. ومما له دلالته رفضها دائماً الدخول في منظمة التحرير منذ العرض الأول لعرفات أواخر التسعينيات. ولكي أكونَ أميناً؛ فقد ظننتُ عندما قررت الحركةُ دخول الانتخابات بعد طول تردد، أنها تغيرت، ودخل في عقل قيادتها مشروع الدولة الحُرة، حتى لتطبيق الشريعة فيها(!).
وعندما بدأت أو ظلّت تتصرف باعتبارها تنظيماً وليس حكومةً منتخبة، أصررتُ على الأمل أيضاً. فقد حسْبتُ أنّ الحصار الإسرائيلي، والعداء العربي والدولي لها، هو الذي أرغمها على ذلك. بيد أنّ رفضها لحكومة الوحدة الوطنية، أكَّد لي وللكثير من المراقبين أنّ حركة "حماس" ما تزال حركةً عقائديةً تُهمُّها الفكرة ويُهمُّها الرمز، أكثر مما يُهمُّها المشروع الاستراتيجي للفلسطينيين وللعرب: إقامة الدولة. وبخاصةٍ أنّ المشروع متواضعٌ، وهو يعني بالكاد إقامة الكيان على 22% من أرض فلسطين التاريخية!
ولاشكَّ أنّ ارتباطات "حماس" الإقليمية سببٌ آخَرُ لرفض حكومة الوحدة. فإيران (وسوريا بالتبع) تتجاذبان وتتماحكان مع الولايات المتحدة وإسرائيل، ليس على تحرير فلسطين بالطبع؛ وهما تستخدمان حركة "حماس"، كما تستخدم إيران الحركات الشيعية بالعراق، و"حزب الله" في لبنان. وهذا عاملٌ مهمٌّ لا يصحُّ نُكرانه. لكنْ من ناحيةٍ أُخرى فإنّ الرفض والممانعة هما السبيل للتحصُّن وراء العقائدية؛ ولهذا فلو تصورنا أنّ إيران وسوريا سوَّتا مشكلاتهما مع الولايات المتحدة، فلا ينبغي أن ننتظر أُلفةً ووداً تُجاه فكرة الدولة. ذلك أنّ الدولة الحديثة هي دولةٌ قوميةٌ ومدنيةٌ وليست دولةً دينية.
والأمر يقتضي تلاؤماً ضخماً من جانب "حماس"، يؤدي في النهاية إلى إذابتها تضاؤلها لأنها في الأساس لا تستطيع احتمال فكرة الدولة المدنية (الكافرة) -أمّا الاحتمالُ الآخَرُ فهو انفرادُ "حماس" بالسلطة، وإقامة دولة دينية على أرض فلسطين. وهذا الأمر يكاد يكون شبه مستحيل، ليس بسبب تنوع الشعب الفلسطيني فقط؛ بل ولأنّ "حماساً" هي أصلاً انشقاقٌ مجتمعي داخلي، لا علاقة له بوجود إسرائيل، وإلاّ فكيف نُعلِّلُ وجود الحركات الإسلامية الراديكالية في البلدان العربية والإسلامية، التي ليس فيها احتلالٌ ولا استعمار؟! وقد كانت الحركة الإسلامية موجودةً بفلسطين وبالأردن قبل نشوب الكفاح المسلَّح ضد إسرائيل أواسط الستينيات، وما شارك "الإخوان المسلمون" في الجانب الفلسطيني في الكفاح ضد إسرائيل حتى عام 1988، وكان خصومهم الرئيسيون حتى ذلك الحين العلمانيين والقوميين ودعاة الدولة الحديثة أو الديمقراطية وحليقي الذقون والشارب والكاسيات العاريات.
فلسطين الآن على حدّ السكّين، أو أنها بين الشفرة والسكّين. هناك الاحتلال الإسرائيلي المجرم والاستئصالي. وهناك الانشقاق والانقسام العميق الغَوْر. والمسؤوليةُ يتحملها الجميع. فسلوك حركة "فتح" الاستئثاري والفوضوي ما كان مُجدياً ولا محموداً؛ ولولا ذلك ما فازت "حماس" في الانتخابات. لو ظلّت "حماس" أقليةً معارِضةً في البرلمان الفلسطيني، لخدمها ذلك في تطوير تجربتها وتلاؤمها وشجّع إمكانيات تطورها، كما تطورت اتجاهاتٌ رئيسيةٌ في الحركات الإسلامية.
ما العمل؟ الأملُ -رغم شكوكي العميقة- أن تنتصر "خصوصية" تجربة الشعب الفلسطيني على أصولية "حماس" وطهوريتها، بحيث يبقى التصدي للاحتلال الإسرائيلي هو الأولوية في الفكر والعمل!