جريدة الجرائد

إيران و«تشييع السنّة»

قراؤنا من مستخدمي إنستجرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك


حازم صاغية


ربما بالغ البعض في أمر "تشييع السنّة" في السودان، بعد سوريّة وبلدان أخرى. وما من شكّ في أن لغة صدّام حسين عن "الفرس" و"المجوس" تحمل دوماً على الحذر والحيطة، خصوصاً وهي اليوم تحظى بجيش لجب من المردّدين والمقلّدين. والواقع أن الموضوع برمّته يترك في الفم طعماً كريهاً حيث يسود شتم أديان ومذاهب وشعوب بنبرة تحريض تهبّ من كل اتّجاه وبقالب من التعميم لا يبقي حيّزاً لتمييز أو استثناء.

لكنّ حملة التشييع المسنوبة إلى إيران تظلّ مقلقة، في معزل عن تضخيمها وإساءة استخدامها، خصوصاً في ظلّ المناخ المذهبيّ القاتل في العراق والمسموم في لبنان. وإذا كان من قلّة النزاهة ردّ هذا المناخ ردّاً حصريّاً إلى إيران، فمن قلّة النزاهة، في المقابل، تنزيه آيات الله عمّا يفعلونه مما هو مطابق لهذا الزمن المذهبيّ والطائفيّ مطابقته لوعيهم "الطبيعيّ".

وليس من موجب للاستغراب. فلئن كانت الامبراطوريّات ميّالة دوماً إلى نشر سلعها، الماديّ منها والثقافيّ، في الخارج، فإن الشيعيّة النضاليّة سلعة محتكَرة إيرانيّاً. وفي وسع طهران اليوم، بما تراكمه من فوائض النفط، أن تنفّذ ما عجزت عن تنفيذه بُعيد قيام ثورة الخميني في 1979، يصحّ هذا على مسارات عدّة أخرى منها الجبهة التقنيّة - النوويّة، وتوطيد المواقع في العراق ولبنان وبعض المناطق الحدوديّة مع أفغانستان، ناهيك عن تكريس السيطرة على الجزر الثلاث في الخليج.

يُفهم هذا التوجّه بالنظر إلى النشاط الإيرانيّ المركّب حيث باتت تتضافر تيّارات عدّة أحدها القوميّة الإيرانيّة المتطرّفة وإن أُلبست لباساً إسلاميّاً عابراً للقوميّات، وأحدها الشيعيّة التي هي المذهب الوطنيّ لتلك الأمّة، وأحدها مناهضة الامبرياليّة التي فاقمت الطابع الراديكاليّ لإيرانيّة النظام ولشيعيّته، وأخيراً ما أضافته مساهمات الرئيس أحمدي نجّاد من لاساميّة فجّة ومؤكّدة.

بيد أن الطابع المركّب هذا يغدو، في مجرّد مغادرة الحدود الإيرانيّة، انفجاريّاً وحاملاً لتناقضات ذاتيّة كثيرة.

ففي بلد كالسودان، مثلاً، حيث لا يزال الصراع ضدّ التبشير المسيحيّ واحداً من محدّدات الوعي السنيّ العربيّ، يصعب أن يُهضم "التبشير" الشيعيّ أو غيره من عمليّات التحويل الدينيّ والمذهبيّ. وأبعد من هذا، أن ما قد يُكسَب في الصراع ضدّ النفوذ الأميركيّ، كأداة يُرجى منها "توحيد" شعوب المنطقة، يُهدَر في الصراع مع سنّة وعرب لا يستسيغون تمدّد الشيعيّة أو الإيرانيّة نحوهم. وفي حال كهذه تمسي الدعوة الى تأبيد النزاع مع إسرائيل حمّالة أوجه: فهي، من جهة، تضحي امتداداً لمصالح إيران فيما تلوح، من جهة أخرى، افتعالاً حداثيّاً مؤدلجاً للصراع الفعليّ بين ملل المنطقة ونحلها. وفي المعنى هذا تصير المزاودة في المقاومات والممانعات قابلة للتأويل مزاوداتٍ إيرانيّة على العرب، وشيعيّة على السنّة. بل يتبدّى، وراء ذلك، ان المشكلة ليست أولويّة النزاع مع إسرائيل، أو أولويّته مع إيران، بل في منطق النزاعات نفسه إذ هو مصدر التوتّر الذي يؤجّج الأديان والعصبيّات والمذاهب.

وغنيّ عن القول إن العرب الراغبين في استئناف المقاومة والممانعة كموقف "وطنيّ"، مدعوّون إلى مناشدة شقيقتهم الإيرانيّة الكبرى ألاّ "تشوّه" الصورة التي يريدونها صافيةً لمقاومتهم وممانعتهم، وألاّ تبثّ التضارب في جهد يُراد له أن يكون منسجماً. وأخطر من هذا ما يتعلّق بشيعة البلدان العربيّة: فهم كلّما اتّسعت لهم مجالات التعبير والمساهمة في الحياة العامّة لمجتمعاتهم، كبرت مسافتهم عن إيران التي ترشّحهم أن يكونوا أوّل الضحايا لتمدّدها الامبراطوريّ. ويمكن القول، في الوقت نفسه، إنه كلّما كبرت مسافتهم عن إيران، اتّسعت لهم مجالات التعبير والمساهمة وتعاظمت.

والحال أن هذا النقاش برمّته يردّنا إلى الزمن الفعليّ الذي تعيشه شعوبنا، حيث لا تفعل مصطلحات "ديموقراطية" و"مقاومة" و"ممانعة" غير تزويقه وتزويره، فيما الهمّ الفعليّ: كيف نشيّع السنّة "النواصب" وكيف نسنّن الشيعة "الروافض"؟

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف