جريدة الجرائد

محنة ألا يرى المرء سوى صورته

قراؤنا من مستخدمي إنستجرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك

الإثنين 25 ديسمبر2006


د. حسن مدن

منذ أن تعلم الإنسان الكلام وهو لا يكف عنه، في البدء ربما يريد المرء اختبار قدرته على أن يتكلم لكنه سرعان ما يدرك أن الكلام / الحوار هو شرط اجتماعيته، شرط صلته مع الآخرين وتفاعله معهم.

ذات مرة قال جاك دريدا: لا توجد حقيقة خارج اللغة..!

مهما بدت هذه العبارة صارمة في حكمها، فإنها تتضمن الكثير من الصحة، فمن دون اللغة / الحوار ما كان للخبرات والتجارب الإنسانية أن تصاغ في نسق من التفكير، وما كان بإمكان الأحكام المختلفة أن تخضع لامتحان الصواب.

مع ذلك تبقى في جعبة الإنسان الكثير من الحكايا والخفايا التي لا يلحق أن يرويها للآخرين أو لا يرغب، ويبدو أن الكتابة الإبداعية تنهل من هذا الاحتياطي الثري، وتنفس شيئا من هذا الكتمان، حين تصهر ما في مستودع الذاكرة من تجارب وعواطف وأشواق وأحزان، وتعيد تشكيله في نسيج جديد من الصعب أحيانا تفكيك عناصره وردها إلى أصلها.

لكن المنولوج الداخلي مهما كان ثريا، فانه مليء بالمحاذير.

يقول بطل رواية عبد الرحمن منيف شرق المتوسط ما معناه: إن الإنسان مهما كان حكيما وخبيرا بالحياة وسديدا في الرأي، فانه بحاجة دائما لمن يستشيره ويحاوره قبل اتخاذ أي قرار.

ومن الأمور الممتعة التي اهتم فرويد بدراستها: زلات اللسان، ومفيدة جدا تلك الخلاصة التي صاغها في هذا الصدد، من أن الكلمات هي ما يخطئ به الناس قبل أن يصبح خطؤهم فعلا. زلات اللسان، إذا، ليست سوى تعبير عن التفكير العفوي الأولي لدى الإنسان، وعما ينطوي عليه منولوجه الداخلي من تصورات ورؤى قبل أن تنتقل إلى الواقع، وكثيرا ما يدرك الإنسان في وعيه أن هذا النوع من المنولوج غير مقبول أو مستساغ من الجماعة، فيسعى لترويضه وتكييفه ليحظى بالقبول.

لكن ما أكثر ما يرتد الإنسان إلى فرديته، فيغلب المنولوج الداخلي، ما تزينه له النفس الأمارة بالسوء على الديالوج، على الحوار مع الآخرين، للدرجة التي تجعلنا نثير السؤال التالي: ألن تصبح حياتنا أكثر استقامة لو أصبح فيها (ديالوج) أكثر، و(منولوج أقل)، لو ضممنا إلى الرأي شيئا آخر اسمه الرأي الآخر؟!

مشكلة الولع بالرأي وتجاهل الرأي الآخر هي إحدى عاهاتنا المزمنة، لأن الكثيرين منا يعيشون بين المرايا المتقابلة، فلا يعود بوسعهم رؤية شيء سوى أنفسهم ووجوههم تتراءى لهم من خلال هذه المرايا، في نوع من النرجسية العالية لدى هؤلاء، حين تصل درجة الانبهار بالنفس حالة مرضية من التضخم تجعل الواحد منهم لا يرى سوى صورته، وقد يبلغ به الأمر ذلك المدى الذي وصل إليه نرجس في الأسطورة القديمة، والذي كان مأخوذا بجمال صورته، وهي تنعكس على سطح ماء النهر أو البركة فكان يمضي الوقت متأملا تلك الصورة، غير قادر على رؤية ما في هذا العالم من مصادر فتنة وجمال وتنوع خارج صورته الجميلة، أو التي تبدو جميلة، وهي منعكسة على سطح الماء، وهي محنة ما أكثر ما قادت أصحابها إلى الهلاك.

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف