جريدة الجرائد

السطو على الذاكرة

قراؤنا من مستخدمي تويتر
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك

الخميس 28 ديسمبر2006

خيري منصور


أن يحاول الغزاة اعادة انتاج الذاكرة والتاريخ لمن يستوطنون أرضهم من السكان الأصليين، فهذا أمر يمكن استيعابه في ضوء منهج تاريخي رسخته الأمثلة المتكررة، لكن أن تتعهد أمة انجاز مثل هذه المهمة المضادة لتاريخها، فهذا ما لا يمكن ادراجه في خانة المعقول، لأنه اللامعقول بامتيازrdquo;.

وإذا كان هناك ما يشبه الاجماع على أن هذه الحقبة التي نعيشها كعرب تعج بمختلف محاصيل التخلف والأوبئة من السياسي إلى الاجتماعي مروراً بالاقتصادي وفساده المزمن، فإن الأولى بنا قبل كل شيء أن نستقرئ الظاهرة جذرياً وألا نتورط دفاعاً عن الكسل الذهني بقراءة الطلاء، الذي لا يصمد أمام ظفر طفل، لأنه سرعان ما يكشطه، ويكتشف الطين تحت قشرة الرخام.

ما يحدث الآن، هو تمدد مزدوج لظاهرة التخلف متعددة الأبعاد، فهي تتجه نحو الماضي لافساد أنبل ما فيه، وتتجه إلى المستقبل عبر تصنيع براعم بديلة، بعد الاجهاز على البراعم الحقيقية الواعدة.

فأية مواسم نرتجي بعد هذا؟ وما الذي سيبقى من الماضي إذا كانت اعادة انتاجه بعد نزع دسمه هي الهدف الأخير؟

ويمكن لأي راصد لما يجري في حياتنا أن يضع ألف خط أحمر تحت دعوات وعناوين وشعارات تدعي التحديث والعصرنة، لأنها تسيء فهم الحداثة والعصر معاً.

ويعتقد فقهاؤها الأميون بأن الحداثة هي انقطاع متعمد عن الماضي، واستبدال للعمامة بالطربوش، وأخيراً للطربوش بالقبعة!

الحداثة رؤية قبل أي شيء آخر، وهي سياق متصل، يشمل مناحي الحياة كلها، ولا يمكن لشعب أن يكون حديثاً في أساليب حياته اليومية وتناول طعامه وأدوات مواصلاته، في الوقت الذي تشغله فيه شجون عديمة الصلة بالواقع.

وثمة من يخلطون على اختلاف النوايا بين التاريخ الحي والفولكلور، وبين ما هو مستمر في فاعليته وما تحول إلى مقتنيات متحفية، فالمتاحف تصلح فقط للتجوال بين أروقتها أو لالتقاط الصور التذكارية، لكنها لا تصلح للاقامة والنوم والطبخ.

ان اعادة انتاج الماضي كي يصبح الأب اللائق بالابن التائه تتلخص في أمرين، أولهما تجريد الماضي من جمالياته وحيثياته وسياقه الزمني، والتعامل معه كما لو انه أيقونات تصلح لأن تعلق على الصدور والجدران، والثاني، الاقتراض من الماضي مما يؤدي إلى افقاره، وافلاسه بدلاً من تغذيته والاضافة إليه وتسليفه من فائض الحاضر.

وإذا صح ما يقال عن أسوأ أنواع المبدعين وهو ذلك الذي يقلد نفسه وليس سواه، فإن ما تقع فيه بعض المجتمعات هو كذلك تماماً وتقليدها لنفسها، هو النمو الدائري، أو الدوران في حلقة مفرغة، والعودة دائماً إلى درجة الصفر.

في الغناء مثلاً تردت أصوات وتنطعت أخرى غير موهوبة لطرب لا يستخف حتى الذباب! ولم يكتف هؤلاء الورثة السفهاء بما ألحقوا بفنونهم ولغتهم وايقاعاتهم، بل تمددوا إلى الماضي لكي يحولوا أم كلثوم وعبد الوهاب وحتى صالح عبد الحي إلى مسوخ جديدة عبر الفيديو كليب المصمم خصيصاً لافساد الذائقة، وتدمير الحساسية وغسل الذاكرة من الأصداء البهية.

ولم يبق أمام هؤلاء الورثة إلا اعادة انتاج شعر المتنبي ونثر الجاحظ وفكر ابن خلدون كي يصبح مناسباً للعرض في الواجهات أو ما يسمى الوجبات السريعة والجانكي فود.

ان ما يحدث هو احلال للورم مكان العافية وسطو مسلح بالفجاجة على الماضي الذي أصبح محاصراً بين عدوين، أحدهما الغازي الحالم بتاريخ بديل.. والآخر محلي يتلذذ بدمه النازف في فمه وهو لا يدري.

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف