ليس الخيار: إيران أم إسرائيل
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
حازم صاغيّة
يميل مقلّدو إيران في المشرق العربيّ الى اختزال الأسئلة الكثيرة والمعقّدة على النحو البسيط الآتي: أنتم، ما دمتم حذرين من إيران أو متحفّظين عنها، مع إسرائيل. وغنيّ عن القول إنّه بعض أشدّ الاختزالات ديماغوجيّةً، إذ في الوسع دائماً الجمع بين حذرين وتحفّظين. لكنّ هذه الحدّيّة تخبّىء أمراً آخر، أو بالأحرى تكشفه، مفاده أن المنطقة مفروزة على نحو يلغي الإرادة والقرار: فإمّا أنت هنا وإلاّ، فشئتَ أو أبيت، هناك.
ومن الذي قال، ويقول، إن الأمور على هذا النحو؟ إيران ومقلّدوها.
فإسرائيل لا تملك ما يجمعنا بها مما يتيح لها أن تتدلّل علينا وأن تضعنا أمام خيار زائف كهذا. ثم إن الصراع معها غدا يحظى بتاريخ ومسار قليلاً ما تعتريهما تقلّبات دراميّة: هي تعرف ان العرب لن يحبّوها ولن ينظروا إليها رائدةً ومحجّة، فتقلّص طموحها الى سلام يختلف فيه تعريفها عن تعريف العرب.
الطارىء على توازنات المنطقة هو المحاولة الإيرانيّة لتسنّم الزعامة الإقليميّة. والجديد هذا، على ما في كلّ جديد، يزلزل التحالفات القائمة ويطرح على المعنيّين صورة مفروزة عن عالمهم عليهم حيالها أن يتدبّروا أمرهم وأمر اصطفافهم.
والشيء نفسه كنّا رأيناه مع الولايات المتّحدة بعد جريمة 11/9، حين أعلنت "الحرب على الإرهاب" فصار مطروحاً على العالم، وهو ما بقي مطروحاً عليه حتّى أشهر خلت، أن يكون "إمّا معنا وإمّا علينا". وقبلذاك عرّضتنا الناصريّة المصريّة لامتحان كهذا، حين قرّرت، مُعزّزة بانتصارها السياسيّ في السويس عام 1956، أن تتحدّى تراكيب المنطقة وتوازنات قواها، ثم عرّضتنا الثورة الخمينيّة للسؤال الكبير نفسه مع اندلاعها في 1979.
وقصارى القول إن الطرف الثوريّ، في مجرّد أن يولد، يطلق طوراً جيولوجيّاً على الآخرين استجابته والتكيّف معه. وهذه كانت حال اسرائيل نفسها حين نشأت في 1948، ثم بُعيدها، عندما طولبت المنطقة كلّها بأن تستجيب وتتكيّف فكرّت الانقلابات العسكريّة والدعوات الراديكاليّة على أنواعها.
وهي بديهة تحمل على التمييز بين المعركتين، التي مع إسرائيل والتي مع إيران. فالأولى باتت، تعريفاً، مندرجة في نظام الدولة الشرق الأوسطيّ، يجري السعي، أو يُفترض أن يجري، لنزع السمة الضدّيّة عن اندراجها وفتح الباب، تالياً، لسلام عادل. أمّا الثانية فتحاول، بصعودها الراهن، قلب النظام المذكور جملةً وتفصيلاً، وهو ما بات يعلنه جهاراً بعض حلفائها المشرقيّين مشكّكين لا بالأنظمة فحسب، بل بالدول نفسها أيضاً (راجع، مثلاً، آخر ما يصدر عن "حماس" ومشايعيها). والبديهة تلك تحوّل النقاش في غير وجهة التشكيك والتخوين بحيث نغدو فعليّاً أمام خيارين:
هل نمضي في امتصاص العنصر الثوريّ القديم، أي نشأة إسرائيل، محاولين استئناف ما ابتدأه مشروع التقسيم وملاحق كامب ديفيد المصريّة-الاسرائيليّة ثم اتفاق أوسلو؟ أم نستدخل العنصر الثوريّ الجديد، أي النفوذ الإيرانيّ الصاعد، خارطين أنفسنا في حومة الصراع الذي يستدعيه النفوذ ذاك؟
ما من شكّ في ان القوّة السجاليّة التي تتمتّع بها حجج إيران ومقلّديها مفادها العنصر الثوريّ الأميركيّ كما تبدّى مع جورج بوش، ومن ثمّ السياسة الاسرائيليّة الصلفة التي واكبته. إلاّ ان ما تتجاهله الحجج تلك ان الصراع مع الدولة العبريّة ليس ابن الأمس. فهناك حروب عدّة وضحايا عديدون وكوارث وخبرات لا حصر لها مما تراكم قبل ان يحضر الوافدون الجدد من طهران الى ساحات المواجهة. والمضيّ في منطق الحروب، على النحو الذي يستدعيه الصعود الإيرانيّ، هو تكرار للمكرّر بشروط أسوأ. فالعنصر الثوريّ هذا يعدنا اليوم بتعريض الوحدات الوطنيّة في بلداننا للانهيار، فضلاً عن تدمير الاقتصاد والتعليم والثقافة وخنق سائر البذور التي يُعوّل عليها ان ينبثق منها تنوير ما. وهو ما يبلور السؤال الفعليّ على الشكل التالي: هل تختار مجتمعاتنا التضحية بكامل طاقاتها وأبعادها واحتمالاتها، فتصير مهنتها الوحيدة انها "تقاوم" أميركا وإسرائيل في سبيل إيران، أم توطّد ما هو قائم تمهيداً للعمل على تحسينه؟ وهو، أيضاً وأيضاً، خيار يسكنه أحد سعيين، سعي الى الأرض واستعادتها وسعي الى "القضيّة" عند من لا يريدون الأرض، وهم كثر.