هرقل و إثم الأريسيين وضغاطر والمقوقس
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
الثلاثاء:07. 02. 2006
د. محمد عابد الجابري
في أواخر السنة السادسة للهجرة قرر الرسول عليه الصلاة والسلام الذهاب إلى مكة للقيام بالعمرة، وكانت ما تزال مقرا لقريش، فتجهز لذلك وانطلق في موكب مسالم فاعترضت قريش طريقه، ثم قرر الطرفان التفاوض فكان الاتفاق المعروف بـ''صلح الحديبية''، وينص على وقف الحرب بين المسلمين وقريش عشر سنوات (فتح المسلمون مكة قبل ذلك)، وعودة الرسول ذلك العام بدون عمرة على أن يأتي في العام الموالي فيدخل مكة بعد أن تخرج منها قريش فيقيم فيها ثلاثة أيام يؤدي خلالها مناسك العمرةmiddot;
لقد كان هذا الاتفاق بمثابة اعتراف ''دبلوماسي'' من طرف قريش بالنبي عليه السلام كرئيس جماعة تشكل دولة في المدينة، دار هجرتهmiddot; اغتنم الرسول حصول هذا الاعتراف فكتب رسائل إلى ملوك ورؤساء الدول المجاورة يدعوهم فيها إلى الإسلامmiddot; ومن خلال رد الفعل الإيجابي لرسائل النبي صلى الله عليه وسلم، إلى كل من هرقل إمبراطور الروم والمقوقس حاكم الإسكندرية يتضح بجلاء أن حركة ''الموحدين'' الأريوسيين كانت متغلغلة في هذه المناطق، ليس في الأوساط الشعبية فحسب، بل أيضا في الأوساط الرسمية، من رجال الدولة ورجال الدينmiddot;
وفيما يلي نصوص بعض هذه الرسائل، وفي مقدمتها رسالة النبي إلى هرقل التي ذكر فيها بصريح العبارة اسم ''الأريسيين''middot;
1 - نص رسالة النبي إلى هرقل: ''بسم الله الرحمن الرحيمmiddot; من محمد عبدالله ورسوله، إلى هرقل عظيم الرومmiddot; سلام على من اتبع الهدىmiddot; أما بعد: فإني أدعوك بدعاية الإسلام: أسلم تسلم، وأسلم يؤتك الله أجرك مرتينmiddot; فإن توليت فعليك إثم الأريسيينmiddot; و''يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلا نَعْبُدَ إِلا اللَّهَ وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضا أَرْبَابا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ'' (آل عمران 64)middot; وقد تم العثور على النسخة الأصلية لهذه الرسالة، وبجانبها صورة منها (نفس المرجع المذكور في المقال السابق)middot;
ويمكن أن تقرأ هكذا: الأَرْيُسِينmiddot; نسبة إلى أريوسmiddot;
وما يهمنا هنا الآن هو كلمة ''الأريسين'' الواردة في هذه الرسالةmiddot; ذلك أن المفسرين اضطربوا في شرح معنى هذه الكلمة (التي قرؤوها بفتح الهمزة وكسر الراء والسين وتشديد الياء الأولى: الارِيـسِـيّـِين) وقد فسرها معظمهم بـ''الأكارين'' أي ''الفلاحين''middot; وعلى هذا الأساس جعلوا معنى قول النبي ''فإن توليت فعليك إثم الأريسيين'' كما يلي: ''وإن لم تدخل في الإسلام فلا تحل بين الفلاحين وبين الإسلام''! وبعضهم قال: ''الأريسيون العشارون يعني أهل المكس''middot; وآخرون رووا العبارة هكذا ''عليك إثم الفلاحين'' الخmiddot; هذا في حين أن الصواب يقتضي قراءة هذه الكلمة كما يلي: ''أرْيُسِـيِّـين'' (فتح الهمزة وسكون الراء وضم الياء الأولىmiddot; نسبة إلى أريوس)middot; وقد خيل إلينا في بداية الأمر أن أي أحد لم ينتبه إلى هذا المعنى، ولكننا عندما عدنا نراجع مصادرنا المختلفة انتبهنا إلى أن ''لسان العرب'' ذكر من جملة آخر ما ذكر بصدد هذه الكلمة قوله: ''وقيل: إِنهم أَتباع عبداللَّه بن أَريس''middot; كما وجدنا في ''فتح الباري بشرح صحيح البخاري'' لابن حجر العسقلاني (كتاب التفسير) ما نصه: ''middot;middot;middot;وحكى غيره أن الأريسيين ينسبون إلى عبدالله بن أريس: رجل كانت النصارى تعظمه ابتدع في دينهم أشياء مخالفة لدين عيسى(middot;middot;middot;) وذكر ابن حزم أن أتباع عبدالله بن أريس كانوا أهل مملكة هرقل''middot;
وهكذا فرسالة النبي إلى هرقل تنطوي على دليل قاطع على أنه عليه السلام كان يدرك، عندما بعث رسالته تلك، أن كثيرا من المنضوين تحت إمبراطورية هرقل هم من ''الموحدين'' أتباع مذهب أريوس، ولذلك حمّله مسؤولية الإثم الذي يترتب عليه إذا هو لم يسلم، لأن عدم إسلامه سيحول دون إسلام رعيتهmiddot;
2- كبير أساقفة الروم ''ضغاطر'' أريوسي آخر يسلم: هناك خطأ مماثل وقعت فيه مصادرنا في حكايتها لرد فعل هرقل على رسالة النبي عليه السلامmiddot; فقد ذكر ابن اسحق وغيره أن هرقل أجاب مبعوث الرسول إليه، واسمه دحية بن خليفة قائلا: ''إني لأعلم أن صاحبك نبي مرسل، وأنه الذي كنا ننتظره ونجده في كتابنا، ولكني أخاف الروم على نفسي، ولولا ذلك لاتبعته، فاذهب إلى ''ضغاطر'' الأسقف، فاذكر له أمر صاحبكم فهو والله أعظم في الروم مني، وأجوَز قولا عندهم مني، فانظر ما يقول''middot; وتضيف الرواية أن دحية ذهب إلى ''ضغاطر'' هذا فأخبره بما جاء به من رسول الله إلى هرقل وبما يدعوه إليه فقال ضغاطر: ''صاحبك والله نبي مرسل نعرفه بصفته ونجده في كتبنا باسمه''middot; ثم دخل فألقى ثيابا كانت عليه سودا ولبس ثيابا بيضاء ثم أخذ عصاه فخرج على الروم وهم في الكنيسة فقال: ''يا معشر الروم إنه قد جاءنا كتاب من أحمد يدعونا فيه إلى الله عز وجلmiddot; وإني أشهـد أن لا إلــه إلا الله وأن أحمد عبده ورسوله''middot; قــال دحية: ''فوثبوا عليه وثبة رجل واحد فضربوه حتى ''قتلوه'' (كذا!)''middot; فلما رجــع دحية إلى هرقل وأخبره الخبر قال: ''قد قلـــت لك إنــا نخافهم على أنفسـناmiddot; فـ''ضغاطر'' والله كان أعظــــم عندهم وأجوز قـــولا مني''middot;
أما جواب هرقل علـــى الرســـول عليه السلام فتورد مصادرنا نصه كما يلـي:
''إلى أحمد رسول الله الذي بشر به عيسى، من قيصـر الروم: إنه جاءنـي كتابك مـــع رسولـــك، وإنــي أشهد أنك رسول الله، نجدك عندنا في الإنجيل، بشرنا بك عيسى بن مريـــمmiddot; وإني دعـــوت الروم إلى أن يؤمنوا بك فأبواmiddot; ولو أطلعوني لكان خيرا لهم، ولوددت أنـــي عندك فأخدمـــك وأغسـل قدميك''middot;
وتضيف مصادرنا أن النبي عليه السلام كتب رسالة إلى ''ضغاطر'' الأسقف بعد أن علم من مبعوثه بموقفه وإعلان إسلامه، وهذا نصها:
''إلى ضغاطر الأسقفmiddot; سلام على من آمنmiddot; أما على إثر ذلك فإن عيسى بن مريم روح الله وكلمة ألقاها إلى مريم الزكيةmiddot; وإني أومن بالله وما أنزل على إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمونmiddot; والسلام على من اتبع الهدى''middot;
أما لفظ ''ضغاطر'' أو ''بغاضر''، كما في بعـض المصـادر، فقد حققه الأستاذ المرحوم محمد حميد اللهmiddot; قال: ''إنه تعريب لكلمة أوتوكراتور autocrator, وهي كلمة إغريقية تعني ''الحبر الأعظم''، خلَفُ السيد المسيح على الأرض وذلك في مقابل Pantocrator الذي يعنون به المسيح، مصورا في أعلى قبة الكنيسة كرمز لعودته منتصرا، ملك العالمين''middot;
3- رسالة النبي إلى المقوقس: هناك رسالة أخرى من رسائل النبي بنفس المناسبة إلى حكام الأقطار المجاورة، يكاد نصها ورد الفعل الذي أثارته يتطابقان مع الرسالة التي بعثها إلى هرقل وما تولد عنها من ردود الفعلmiddot;
يتعلق الأمر برسالته عليه السلام إلى المقوقس حاكم الإسكندرية، واسمه جريج بن مينا، حملها إليه حاطب بن أبي بلتَعة على رأس وفد من ستة أشخاصmiddot; وفيما يلي نص الرسالة التي تم العثور على أصلها قرب أخميم في صعيد مصر (نفس المرجع المشار إليه)middot;
نص رسالة النبي إلى المقوقس: ''بسم الله الرحمن الرحيمmiddot; من محمد عبدالله ورسوله إلى المقوقس عظيم القبط
سلام على من اتبع الهدىmiddot; أما بعد: فإني أدعوك بدعاية الإسلام، أسلم تسلم، يؤتك الله أجرك مرتينmiddot; فإن توليت فعليك إثم القبطmiddot; ''يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلا نَعْبُدَ إِلا اللَّهَ ولا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئا وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضا أَرْبَابا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ'' (آل عمران 64)middot; ثم علامة الختم من أعلى إلى أسفل هكذا: الله-رسول-محمد (=محمد رسول الله)
رسالة النبي إلى المقوقس
نص جواب المقوقس: ''لمحمد بن عبدالله من المقوقس
سلام، أما بعد، فقد قرأت كتابك وفهمت ما ذكرت وما تدعو إليه، وقد علمت أن نبيا قد بقي، وقد كنت أظن أنه يخرج بالشامmiddot; وقد أكرمت رسلك وبعثت إليك بجاريتين لهما مكان في القبط عظيم، وبكسوة، وأهديت إليك بغلة لتركبها، والسلام''middot; هذا وتجمع مصادرنا على أن إحدى الجاريتين هي مارية القبطية التي ولدت للنبي ابنه إبراهيمmiddot;
والمثير للانتباه هنا هـو قول المقوقس: ''وقـد علمت أن نبيا قد بقي، وقد كنت أظن أنه يخرج بالشام''، الشـيء الذي يدل دلالة واضحة على أن الأريوسية وتوقعات الحنفاء ودعايتهم قد امتـدت إلى رجال الدولة في الإمبراطورية البيزنطيـةmiddot;