جريدة الجرائد

عندما يرتفع السلاح إلى مرتبة القداسة

قراؤنا من مستخدمي تويتر
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك

غسان الإمام

الاختراق أول تقنية صناعية ابتكرها الانسان. رغبة الانسان الغريزية في القتل، هجوما ودفاعا، ألجأته الى ترويس الحجر، ثم النباتات والأغصان والمعادن، ليخترق بها لحم أخيه الانسان، أو لصيد الحيوان لتأمين الغذاء.

غريزة القتل والشر تتداخل مع غريزة الجنس! أداة الاختراق من السهم الى الخنجر والبندقية والمدفع والصاروخ تحاكي أداة الجنس عند الذكور. المرأة لها أداة مختلفة تماما في الاختراق طورت المرأة تقنية الاغراء بالجمال الطبيعي ثم الصناعي (أدوات الزينة واللباس والماكياج) لاختراق الرجال. وعلى حد قول الشاعر العربي: كل من في الوجود يطلب صيدا/غير أن الشِباكَ مختلفاتِ.

في مسيرة الانسان نحو المجتمع المدني، تراجعت هيبة السلاح. لم يعد السلاح موضع فخار القبيلة. حلت الدولة محل الراعي والصياد والفارس في اقتناء السلاح. أعلنت الدولة انها وحدها تملك شرعية حمل السلاح، وتعللت بحفظ الأمن المدني والدفاع الوطني.

غير أن طهر الدولة لم يدم طويلا. فقد طورت السلاح في يدها من تقنية الأمن الى تقنية الردع والقمع في الداخل، والى غزو الآخرين واستعمارهم في الخارج. وهكذا، اضطرت الشعوب والمجتمعات الى حمل السلاح، للدفاع عن حريتها في الثورات الدموية التي شهدها العالم في العصر الحديث.

ليس عجيبا ان يكون السلاح الخفيف أداة الشرعية الثورية. ابتكر مهندس سوفياتي بندقية الكلاشنيكوف المتخلفة، فانتصرت الشعوب بها على بندقية إم 16 الأميركية المتطورة التي حملتها الدولة والمليشيات الفاشية ضد الثوار. انتصر السلاح الخفيف، بفعل إرادة الشعوب وعزمها على التضحية بالحياة في الثورة وفي المقاومة.

غير أن الاستقلال لم يكن نعمة ورحمة سرقت الدولة الصغيرة تقنية الكلاشنيكوف والمسدس الكاتم للصوت، لتسلب الشعوب والمجتمعات المستقلة مرة أخرى حريتها وحقوقها. بات أبناء وأحفاد ثوار الاستقلال يموتون في أقبية التعذيب، ويقضون عشرات السنين في زنزانات المعتقلات.

أما الدولة الكبرى فقد تفرغت لتطوير تقنية السلاح. ادعت أن تفوقها الصناعي والتقني يمنحها وحدها العقل والحكمة في إدارة العلاقات الدولية، وفرض هيمنتها، واحتكار السلاح الاستراتيجي وتحريمه على الدولة الصغيرة باستثناء اسرائيل. قلدت الدولة المتوسطة الفقيرة (الصين. الهند. باكستان) الدولة الكبيرة.

قطعت من لقمة العيش لتصنع قنبلة الفقراء المخيفة.

منحت الدولة الكبرى نفسها "شرعية" تدمير الحياة على هذا الكوكب الشقي، عدة مرات بالسلاح الاستراتيجي. سكرت الدولة الكبيرة والصغيرة بالإدمان على السلاح التقليدي والاستراتيجي. ارتفع السلاح الى رتبة القداسة. أصبح الإنفاق على المقدس الجديد يفوق الإنفاق على سائر المقدسات الضرورية الأخرى، من علم وتعليم وصحة وثقافة ومكافحة لفقر العالم وجوعه.

في الربع الأخير من القرن العشرين، راحت سلطة الدولة الصغيرة تتهاوى. اختفت ميثولوجيا العدالة الاجتماعية والمساواة التي أشاعتها يوما الثقافة الشعبية الماركسية والاشتراكية. مع اختلاف الأمن والعدل، تراجعت حدود الوطن الى حدود الطائفة والقبيلة والغيتو العرقي. بات التنظيم المليشياوي يشارك الدولة في حمل السلاح!

حتى الدولة أنشأت مليشيات مسلحة. الحرس الجمهوري يطوق العاصمة بأبناء الطائفة والعشيرة المسلحين حماية للنظام، وغدا أقوى من الجيوش الوطنية، وأكثر "تخويفا" للمجتمع المدني. ارتكبت الدولة العربية حماقة إنشاء مليشيات فلسطينية مسلحة لحسابها، لتناصب المنظمة السيادية المستقلة (فتح) العداء والمزايدة عليها وطنيا وقومياً.

في انتقاله من الدولة الى التنظيم والمنظمة فالسلاح خارج مفهوم الدولة الحديثة كحامية وضأمنة للأمن المدني، هو اعتداء صارخ على الحياة المدنية، وترويع للحريات العامة، وسلب لهيبة القانون تعددية السلاح الحكومي والمليشياوي استفزاز لديمقراطية الحوار السلمي. مع انتشار "ديمقراطية" السلاح، انتشرت المذابح الطائفية والعرقية. مات وجرح أكثر من 300 ألف لبناني، وذبح أكثر من مليون في رواندا وبوروندي، وأكثر من ربع مليون مسلم وأرثوذكس وكاثوليكي في البوسنة والهرسك، وأكثر من ربع مليون مسلم وأرثوذكسي وكاثوليكي في البوسنة والهرسك وكرواتيا.

في امتهانه الثقافة، راح صدام يحضر مهرجان "المربد" ومسدس العشيرة يتدلى من خصره أمام قطيع المثقفين الذين كان يتسوقهم كل سنة من أنحاء العالم العربي. لم يعترض مثقف حر واحد على "البطل" الذي يحمل، في عنتريته، بندقية يلوح بها أو يطلق رصاصها أمام الناس، فكيف تطبق الدولة القانون الذي يمنع اطلاق الرصاص في المآتم والأفراح؟

مع اختفاء الشرعية الثورية، صعدت الشرعية الجهادية. اغتالت الجهادية الإخوانية رئيسين للوزراء في مصر، وشرعت في اغتيال الثالث (عبد الناصر) قبل أن يحرق سلاحها الناري أصابعها.

هي الآن تكتفي بمواجهة خصومها في الشارع بالسلاح الابيض وسلاسل الحديد.

هل السلاح أداة ووسيلة عابرتان ومؤقتتان أم غاية مستمرة بحيث تحول الإدمان عليه لدى كل الذين انتشوا به، بدءاً بالدولة الى التنظيم والحزب والمليشيات و"فدائيي" الجريمة المنظمة (المافيا)؟

نحن الآن أمام حالة جهادية مثيرة للجدل. كلما تحرك إصلاحيو المدن الإيرانية، قمعتهم الدولة التيوقراطية بالمليشيا المسلحة (باسيدج) المؤلفة من الريفيين المحرومين فقرا، والمعدمين تعليما ووعيا، والموعودين بالجنة.

"حزب الله" في لبنان كتلة برلمانية ووزارية ومليشيا مسلحة. حامل السلاح تَعِبٌ كحامل الهوى. أقسم الحزب اليمين بالعظيم على عدم التخلي عن سلاحه إلى أن يحرر شبعا والضفة، وربما الجولان بالنيابة على السوريين. في هذه الأزدواجية المليشياوية والسياسية، يبدو الحزب على حق. فقد اضطهد سلاح المليشيات الفلسطينية شيعة لبنان. ثم مات ألوف منهم بالاجتياح الاسرائيلي والقصف المدني والجوي.

تمكن الحزب بسلاحه وشهدائه من إجبار اسرائيل على الانسحاب، فكيف يقبل بالتخلي عن السلاح الرادع والحامي؟

ثقافة الإدمان على السلاح تدفع بالحزب حتى إلى معارضة نزع سلاح مليشيا أحمد جبريل الفلسطينية المعسكرة على طريق الاشتباك مع اللبنانيين المسافرين بين بيروت والجنوب، وبعيدا عن الاشتباك مع الإسرائيليين على الحدود. ماذا يقول الحزب إذا أبلغه المسيحيون انهم سيعاودون إدمان السلاح خوفا من سلاحه؟

ها هو سمير جعجع المعسكر في الأرز يقول انه شرع بتدريب مليشياه فقط.. لحمايته الشخصية من سلاح الاغتيال.

من إيران إلى العراق وأفغانستان، ومن لبنان إلى ما تبقى من فلسطين، تصر الجهاديات الدينية على إدمان السلاح "حماس" تريد الاحتفاظ بالسلطة والسلاح معا. مع الإدمان الجهادي على السلاح، تثور جدلية التباين بين سلاح المقاومة وسلاح الإرهاب: هل قتل المنظمة الجهادية للمدنيين في شوارع العراق وفنادق عمان ومدن أوروبا وأميركا حلال أم حرام؟ هل هذه العمليات إرهاب أم مقاومة ترشح مرتكبيها إلى دخول الجنة؟

المنظِّر فاروق الشرع يقول إنها مقاومة مشروعة. القرضاوي يترك للسماء أن تفرق بين المسلمين و"الكفار" الذين يموتون بجهادية السلاح. ابن لادن يظهر على الشاشة مع كلاشنيكوف مهددا بوش بالإبادة. يرد شيراك مهددا باللجوء إلى السلاح النووي ضد الإرهاب المنطلق من دولة جهادية.

بماذا ينصح السنيورة الذي استوعب وزراء أمل وحزب الله ساكتا عن سلاح الشيعة، بماذا ينصح نده محمود عباس الحائر أمام سلاح حماس؟

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف