جريدة الجرائد

الرسوم الدنماركية .. والحوار البيزنطي بيننا وبينهم

قرائنا من مستخدمي تلغرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
نادية محديد

ألا يحق اليوم أن نتساءل عما حققه المتظاهرون في مدن وعواصم العالمين الإسلامي والعربي لما تظاهروا بالشكل العنيف الذي نقلته تلفزيونات العالم؟ وهل استطاع هؤلاء بعد حرقهم لسفارات الدنمارك وعلمها، تعبيرا عن غضب نتفهمه، أن يقنعوا العالم أو جزءا منه بأن دين رسول الله محمد، صلى الله عليه وسلم، هو دين سلم وسلام، على عكس ما صورته رسومات الكاريكاتور المغمور؟ أم أنهم، ربما، لم يقوموا إلا بتأكيد ما قيل عنهم؟
قد تتفق الردود بأن الكيل طفح ... وعندها لا يهم كثيرا كيف يراك أو يتقبلك الآخر، مهما كان. لكن حدة عنف ردة فعل الشارع الإسلامي، عموما، بعد سقوط قتلى وجرحى وإحراق المباني، لا تغفر أو تبرئ أحدا من الأخطاء التي وقعت في هذه المسيرات. كما أتساءل بأسى إن كان هذا كل ما تبقى من رسالة وسيرة الرسول الكريم عليه الصلاة السلام، أن يهب أبناء ديانته للثأر ورفع "إساءة" لحقت به أو بهم، على حد سواء، في القرن الواحد والعشرين بعنف لم يواجه به، هو، أشد خصومه والهازئين برسالته لدى نزولها عليه، وذلك قبل 14 قرنا !

المظاهرات الصاخبة، وحوادث الحرق هذه، تثبت مرة أخرى أن "الحوار البيزنطي" بين العالمين الإسلامي والغربي المسيحي، في عمومه، هو بين طرفين متطرفين لا ثالث لهما. فغالبية أخرى من المسلمين في الشرق الأوسط وأوروبا أصبحت، رغما عنها، تعرف باسمهم وتعيش في ظلهم تنتظر متى سيقرعون، مرة أخرى، طبول حربهم. الساحة خلت لهم بعد أن تواطأت وساهمت الدول العظمى بأدوارها المتقلبة على خشبة مسرحها الكبير الشرق الأوسطي بتسفيه وتهميش القوى الليبرالية على اختلاف مشاربها، عكس ما تدّعيه علنا اليوم من دعم للديمقراطيين ولديمقراطية عربية. الأمر الذي أفسح المجال، عن قصد أو غير قصد، لطفرة الراديكاليين المتدينين كونهم، هم، وليس نحن الصامتين المسالمين "المتحضرين" الوجه المناسب لأية دولة إسلامية، فمناظر الغضب العارم التي شهدها العالم، مرارا وتكرارا، بمناسبة وغير مناسبة، هي التي يراد لها أن ترسخ في الأذهان وأن تكون بطاقة تعريف أي مسلم حيثما كان.

صناعة الصورة هذه من الصعب التصديق ببراءتها وإعزائها فقط لعلة تنهش المجتمعات العربية وتحطم معنوياتها الضرورية لانطلاقاتها، بل هي أيضا صورة من صنع لوبيات الوجه الآخر للحضارة الغربية التي لا تخلو من التطرف والعنصرية المقيتة التي سواء ارتكزت على دين أو على ايديولوجية منبعها علماني فحقدها يناهز التطرف، أحيانا، تجاه العرب المسلمين.

أضف الى ذلك، التساؤل يعن توقيت "عولمة" المظاهرات من جهة، وأسباب تأخر ردة فعلها خمسة أشهر، لو كانت فعلا عفوية غير مبيتة ؟ علما بأن الإقبال على مقاطعة المنتوجات الدنماركية كان خطوة اقتصادية فاعلة في تحقيق هدفها وإيصال رسالة الغضب والاشمئزاز العربي ـ الإسلامي للدنماركيين على عنصرية رسومات احدى صحفهم. إلى جانب ذلك، فقد تظاهر ما يزيد عن 5000 مسلم في كوبنهاغن منتصف أكتوبر الماضي، وأعربوا حينها عن غضبهم بطريقة منتظمة. فلما الآن؟

المسلمون في بريطانيا على عكس نظرائهم في الدنمارك، على ما يبدو، لم يصلهم "الخبر" الا نهاية الأسبوع الماضي ! فخرجوا ليتظاهروا، لكن عوض التنديد بالإساءة الى الاسلام، تسببوا في إساءات أكبر للإسلام ونبيه. اذ استغلت جماعات متطرفة في لندن المسيرة لتنادي عبر لافتات بالقتل والذبح والتفجير، اذ لم يعد رسام الكاريكاتور وحده المعني بدفع ثمن إساءته، بل الغرب كله، الصالح فيه والطالح. وانتهت المظاهرة بأن قوبلت صور الرسام المعبرة عن إسلاموفوبيا (Islamophobia) حقيقية (أي تطرف عنصري ضد الإسلام والمسلمين) بتطرف آخر ديني، وكلاهما يسيء لنا كغالبية صامتة.

عنف التهديدات التي صدرت عن "بعض" المتظاهرين المسلمين، لم يعمل إلا في تغيير طبيعة النقاش، فمن مركز الضحية أصبحوا هم الجناة. وتغير النقاش من تأكيد حق الأقليات الدينية في عدم المساس بمعتقداتها بصفة جارحة من باب المسؤولية الصحافية التي تفرضها حرية التعبير إلى نقاش حول التهديدات التي أصدرها، ربما على فراغ، بعض المتظاهرين.

ديناميكية مثل هذا العنف المستند خطأ إلى الدين، جعلت القصص تسيل دما بدلا من أن تسيل حبرا. فهذه الممارسات تعود الى مطلع الثمانينات لما صدرت تلك الفتوى القاضية بقتل الكاتب سلمان رشدي صاحب "الآيات الشيطانية". فتوى لم تتوصل إلى قتل الكاتب لكنها فتحت باب هذا النوع من التهديدات، اذ قتل أحد مترجمي كتاب رشدي، وبعده في هولندا قتل المخرج السينمائي ثيو فونغوغ. أما الآن، فترفع اللافتات في وضح النهار لهدر دم الدنماركي راسم الكاريكاتور... إلى متى ؟

هناك من يتسّرع منا لتسجيل ما يجري في خانة طرح "صراع الحضارات" التي تقدم بها صامويل هنتينغتون في كتابه، وأعتقد أننا نجامل أنفسنا اذا صدقنا ذلك: أي حضارة هذه التي تصارع الأخرى؟ فلا العالم العربي ولا الإسلامي في وضعهما، اليوم، حضاريان في شيء. التخلف سمتهما، "صراع الحضارات" شعار فارغ. وأفرغت الدراسة الأكاديمية القيّمة لصاحبها من محتواها وبعدها. وأكثر ما أميل إلى رؤيته يجري بين متطرفي المعسكرين، في الشرق والغرب، هو ما قاله أحدهم بأنه "ليس صراع حضارات بل تصادم للحماقات". وإن وجد "صراع الحضارات" فهو حتما سيجري بين قوتين متساويتين نسبيا، لكن أين نحن، اقتصاديا وسياسيا وعسكريا وثقافيا، حتى نقنع أنفسنا بأننا أنداد لمثل هذا الصراع ؟

دخلنا دوامة لا أرى متى سنخرج منها، إذ أصبح هؤلاء الذين يدّعون أنهم الأكثر إسلاما من غيرهم في مجتمعاتنا، أي "حماتها"، هم غالبا أكبر مصدر للإساءة لديننا ولرسوله الكريم! وكل ما أخشاه أن ما حدث سيقوي معسكر العابثين الساعين للشهرة والمال على حساب أي شيء سواء كانت معتقدات أو غيرها، فهل الحل في مثل هذه المظاهرات ؟

القضية والداء، كلاهما مغطوسان في مكان آخر.

nadia.mehdid@gmail.com

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف