أبعد من جريمة سامراء
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
محمد السمّاك
لو كنت في موقع مسؤول غربي، أميركي أو أوروبي، ولو كنت مؤمناً بحتمية انفجار صراع حضاري أو ثقافي أو ديني مع العالم الاسلامي.. أو متخوفاً من وقوع مثل هذا الانفجار.. كيف أبعد كأس هذا الصراع عن شفاه الغربيين، بعد أن تذوقوا مرارته الحنظلية في نيويورك واشنطن، ثم في بالي (اندونيسيا) وفي مدريد ولندن، وقبل ذلك في بارس؟..
لو كنت في موقع هذه المسؤولية وخيل الي، أو بدا لي الاسلام مثل سحابة سوداء تدفعها رياح الكراهية لتسقط حجارة من سجيل فوق رؤوس الغربيين، ماذا عساي أفعل حتى أبدد هذه السحابة؟.
واذا تعذر علي تبديدها.. كيف أعمل على تحويل اتجاه الريح لتنقلها بعيداً وتعيدها الى العالم الاسلامي نفسه؟..
تطرح محاولة الاجابة على هذه التساؤلات السؤال الأهم والأخطر. وهو: اين تقع محاولات تفجير العلاقات الاسلامية ـ الاسلامية من هذه الصورة الافتراضية؟.
قبل الحديث عن الفتنة المذهبية في العراق والتي تبذل الجهود من أجل نقل لهيبها الى العالم العربي، بل ومن أجل تعميمها على العالم الاسلامي كله، لا بد من التوقف امام مرحلة ما بعد انتهاء الاحتلال السوفياتي (السابق) لأفغانستان.
لقد استخدمت الولايات المتحدة المجاهدين الاسلاميين حتى آخر قطرة من الليمونة المعصورة. فليس صحيحاً انه كانت هناك نية لإلقاء تلك الليمونة في سلة المهملات. الصحيح انه جرت محاولات لتوظيفها في مهمة تستهدف القضاء على القوى التي نمت على جانبيها: الباكستان من الشرق، وايران من الغرب.
وكادت تلك المحاولات ان تنجح بشقيها. اذا انفجرت سلسلة صراعات محلية بين القبائل الاسلامية السنية والشيعية في الباكستان وافغانستان وعلى حدود ايران الشرقية بعد ان كانت طوال سنوات الجهاد كتلة واحدة ضد الاتحاد السوفياتي.
وبعد قيام الثورة الاسلامية في ايران، جرى استخدام شعار تصدير الثورة لإثارة مخاوف دول الخليج العربي وامتداداً بقية دول العالم العربي. عزز من تلك المخاوف تمسك ايران بالسيطرة التي فرضها الشاه محمد رضا بهلوي على الجزر العربية الثلاث (طنب الكبرى وطنب الصغرى وأبو موسى).
ولكن محاولات استدراج العالم العربي الى صراع مع ايران فشلت ايضاً، وأنقذ هذا الفشل العلاقات الاسلامية ـ الاسلامية من الوقوع في فخ الفتنة التي كانت تستدرج اليه.
واليوم تجري محاولات جديدة من أجل الوصول الى هذا الهدف بالذات من خلال تخويف العالم العربي من امكانات ايران النووية، وذلك بتصوير هذه الامكانات وكأنها موجهة ضد العرب وليس ضد اسرائيل.. وانها اداة تخويف نووية شيعية في وجه المسلمين السنة؟!. علماً بأن اسرائيل تعتبر امتلاك ايران التقنية النووية خللاً في ميزان القوى، الأمر الذي يشكل خطراً عليها، ما يبرر في نظرها وفي نظر الولايات المتحدة ايضاً، تجريد ايران من هذه التقنية بالديبلوماسية أو بالقوة العسكرية.
وحتى يقتنع العرب بأنهم مستهدفون من ايران، كان لا بد من تفجير العلاقات بين السنة والشيعة، وكان لا بد من تصوير ايران وكأنها في معسكر الداعم للشيعة والمحرض ضد السنة بحكم كونها دولة اسلامية شيعية. ولا يوجد مسرح مؤهل أفضل من العراق لتحقيق هذا الهدف. فالعراق يخضع مباشرة لحكم قوات احتلال اميركية ـ بريطانية مشتركة. وتنتشر فيه أجهزة استخبارات تابعة لدولة هذه القوات، ولعل أهمها وأخطرها على الاطلاق جهاز الموساد الاسرائيلي الذي يوظف عدداً كبيراً من اليهود الاسرائيليين الذين يتحدرون من أصول عراقية، ويعرفون اللغة واللهجة والمواقع.
إن نسف مسجد للسنة من هنا، وحسينية للشيعة من هناك. واغتيال إمام سني من هنا، وإمام شيعي من هناك. ووضع سيارة ملغومة تحصد العشرات من الأبرياء في هذا الحي السني، أو في ذاك الحي الشيعي من بغداد أو البصرة.. كافٍ لاستفزاز الطرفين ومن ثم لإضرام النار التي تأكل فيهم الأخضر واليابس.
لقد استعصى العراقيون طويلاً على هذه الفتنة الى أن وقع الاعتداء الآثم على ضريحي الإمامين علي الهادي وحسن العسكري عليهما السلام في مدينة سامراء.. فكان الانفجار المروع.
من هنا فان الجريمة التي استهدفت هذا المعلم الاسلامي التاريخي المقدس لم تستهدفه لذاته، ولكن الجريمة كانت مجرد وسيلة للوصول الى هدف آخر من خلال حساب رد الفعل. وهذا الهدف هو إشعال الفتنة بين السنة والشيعة. ذلك ان فتنة من هذا النوع تجعل العالم الاسلامي منشغلاً بنفسه، يأكل نفسه بنفسه، فينصرف عن ازعاج الآخرين وينغمس في تصفية حسابات انتقامية دموية مذهبية احياناً، وعرقية احياناً أخرى. وهكذا يمكن تحويل مجرى رياح الأحداث بحيث تحمل السحابة السوداء الى حيث تمطر وابلاً من الحروب الأهلية الاستنزافية للمسلمين وبأيدي المسلمين أنفسهم!!.
هذه التجربة قامت بها اسرائيل وحققت نسبة عالية من النجاح. فقد ادى تفجير الصراعات العربية ـ العربية في المشرق (بين سوريا والأردن، وبين العراق وسوريا، وبين فلسطين والأردن، وبين مصر والسودان) وفي المغرب (بين المغرب والجزائر، وبين ليبيا وتونس) وفي الخليج العربي (بين السعودية وقطر، وبين العراق والكويت) الى بسط أسارير الجبهة العربية ـ الاسرائيلية ما مهد للتسويات السياسية مع كل من مصر والأردن ومنظمة التحرير الفلسطينية.
وحاولت اسرائيل ـ ولم تزل تحاول ـ ان تنقل التجربة الى المعسكر الفلسطيني لتضرم النار بين فتح وحماس، حتى تضع رجليها في مياه نهر الأردن الباردة مطمئنة الى طول سلامة!.
ان القلق الغربي ـ حتى ولو كان وهمياً ـ من احتمال نشوب صراع مع العالم الاسلامي، يمكن ان يتبدد عندما ينشغل العالم الاسلامي بنفسه، كما حدث مع العالم العربي على نطاق واسع وكما حدث مع الفلسطينيين على نطاق ضيق. فيكون هناك صراع اسلامي ـ اسلامي ـ وعربي ـ عربي، وفلسطيني ـ فلسطيني، بدلاً من الصراع الاسلامي ـ الغربي (؟)، والعربي ـ الصهيوني، والفلسطيني ـ الاسرائيلي.
لم يكن الاعتداء الآثم على ضريحي الإمامين الهادي والعسكري في العراق أول اعتداء تحريضي ولن يكون الأخير. فقبل الوصول الى ارتكاب فتنة نسف الضريحين جرت عدة محاولات لإثارة الفتنة استعصى العراقيون عليها رغم فداحة الخسائر البشرية. ولو لم يكن هناك رد فعل على النحو الذي حدث في الأسبوع الماضي في العراق، لتعرضت معالم مقدسة أخرى سنية وشيعية الى اعتداء أشد اثماً بقصد الاستفزاز والتحريض. فالذين خططوا وحرضوا ونفذوا جريمة سامراء، يتوقعون الآن ردات فعل تتجاوز العراق لتمتد الى باكستان خصوصاً، والى السعودية والكويت والبحرين، وحتى الى لبنان.
من هنا فان التمسك بأهداب الوحدة الاسلامية والوحدة الوطنية في كل هذه الدول هو الرد العملي الفعال على محاولات اثارة الفتنة. وهو التأكيد العملي والفعال ايضاً على الالتزام بالقيم الاسلامية وبأخلاق وسيرة الأئمة الصالحين.. كالإمام الهادي والإمام العسكري عليهما السلام.