القرضاوي لعمرو خالد: لا تصالح!
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
مشاري الذايدي
إذا كنت مشدودا بحبل طويل، غير مرئي، وأنت تتوهم أنك طليق، فكيف تعرف أنك أسير وموثوق حقا؟! ببساطة، امض في الشوط الى نهايته حتى تشعر بحزّة الحبل على ساقك! هنا تصل الرسالة وتفهم حدّك الاخير.
شيء من ذلك جرى للداعية المصري الشاب عمرو خالد، الذي تحول في السنوات الاخيرة الى ظاهرة إعلامية ملفتة، بعدما أدخل "تعديلات" على مظهر الشيخ، وأضاف "رتوشات" على خطاب الوعظ، وحظي بمباركة ذوي العمائم والعباءات ممن كانوا يجدون مشقة في الوصول الى جيل الفيديو كليب والانترنت...
الداعية الشاب، ذو اللحية الحليقة، يخوض هذه الايام سجالا مع يوسف القرضاوي، "الشيخ" المعمم، صاحب الصوت الجهير والخطاب الحماسي، والطروحات الاسلامية، الثورية سياسيا، المسالمة اجتماعيا، على خلفية الموقف من أزمة الرسوم الدنماركية.
عمرو خالد، يرى ان الازمة فرصة لإجراء تبشير بالإسلام. يعرّف الغرب، من خلال الدنمارك، بمزيد من الدعوة والوعظ. ولذلك، هو يقود الآن حملة جماهيرية من أجل عقد مؤتمر "حواري" في كوبنهاغن، مستعينا بشيوخ وفقهاء ودعاة من أكثر من بلد مسلم. المؤتمر مقرر له الانعقاد يومي 9 و10 من الشهر الجاري، غير أن القرضاوي رفض هذا المسعى، وقام بتحرك مضاد لعقد مؤتمر حاشد في البحرين بتاريخ 14 الحالي، بقيادة تجمع "الحملة العالمية لنصرة نبي الإسلام".
الشيخ القرضاوي قرّع عمرو خالد على مسعاه "التوفيقي" الحواري، معتبرا ان "الفتى" عمرو مخطىء، لأنه سيتسبب بقطع الغضب الاسلامي! مؤكدا حاجة الأمة: "الى منبهات تنبهها من الركود، وان ما حدث هو محرك للأمة".(الشرق الأوسط، 3 مارس الحالي).
لكن عمرو خالد كان مصرا، رغم تكرار اعتراضات القرضاوي، الذي رفض من قبل بيانا وقعه 41 داعية وشيخا، في 13 فبراير الماضي. البيان كان وقعه أيضا عمرو خالد، اضافة الى سلمان العودة من السعودية، وعكرمة صبري مفتي القدس، ومحمد حسين فضل الله المرجع الشيعي، وغيرهم.
القرضاوي رفض التوقيع على ذلك البيان لأنه يريد بيانا أكثر تصعيدا، ولا يريد قطع الطريق على فورة الأمة...! ويرفض الآن مؤتمر عمرو خالد التبشيري بالإسلام في كوبنهاغن، لنفس الحجة.
حسنا، هل يعني هذا ان عمرو خالد، والذين معه، أكثر اعتدالا من القرضاوي، أو أكثر علما، أو أكثر حكمة؟! أم يعني ان القرضاوي أكثر غيرة على الاسلام منهم؟!
الحق، أنه لا هذا ولا ذاك، ومن المؤكد ان معسكر القرضاوي والرافضين معه لأي مسعى تهديئي، سيقولون عن عمرو خالد ومن معه من "جماعة كوبنهاغن" الجديدة!: هم اخواننا لكنهم اجتهدوا وأخطأوا.
المسألة، حسبما أفهم، أكبر من مسألة خطأ وصواب، إنها خلافات تكشف أبعادا اخرى، تخرج بنا عن زبدة الدنمارك الى زبدة أخرى، زبدة الموضوع...
القرضاوي أكثر إدراكا لأهمية بقاء الشعور "الجماعي"، الثائر، المتمحور على قضية دينية، أي قضية "هوية"، بوصف الاسلاميين أعتى عتاة الهويات المغلقة. القرضاوي يرى أن هذه فرصة سانحة للعمل من أجل "بعث" المشروع السياسي الاسلاموي مجددا، والاستفادة القصوى من قوة الدفع التي ولدتها أزمة الدنمارك في اتجاهات اخرى، فمن وحّد هذه الجموع على قضية واضحة، مثل قضية الرسوم الدنماركية المسيئة لرسول الاسلام، وحّدها بطريقة مذهلة في كل أنحاء العالم الاسلامي وغير الاسلامي. اذن فمعنى ذلك، انه يمكنه تكرار المشهد مرة اخرى، وتفجير هذه الحركة الجماعية كرة اخرى، في قضايا مختلفة، يرى القرضاوي، ومن هم مثله، وهم كثير، ان "الأمة" قد تخاذلت عنها، وان التفاف الامة عليها، هو السبيل الاوحد، ولا سبيل سواه، من أجل الحل، حلهم هم، من قضية فلسطين، الى قضية هوية المجتمعات وثقافتها التي يجب ان تكون إسلامية صرفة، حسبما يشرحون هم، الى قضية الاقتصاد... الى السياسة... الى الرياضة... تقريبا إعادة صوغ الحياة كلها وفق الرؤية الكامنة في تلافيف الخطاب الاصولي السياسي، أفكار وأشواق، يمكن ان تبرد فترة، لكن ذلك لا يعني ان الجمر الاحمر ليس ملتهبا تحت رماد الانتظار...
لقد كانت أزمة الدنمارك الفرصة المثالية، وقد قال القرضاوي صراحة في حواره مع "الشرق الأوسط"، متحدثا عن الحملة الاسلامية العالمية والمظاهرات والمقاطعة، وما صاحب ذلك كله من احداث: "ما حدث هو محرك للأمة التي مزقتها الخلافات ووحدتها محبة رسول الله صلى الله عليه وسلم". ثم تحدث عن عمرو خالد الذي استفز الشيخ لأنه، وهو الفتى، لم يفهم الفائدة الباطنية القابعة وراء إبقاء فتيل الازمة مشتعلا، وضمان استمرار مشاعر الغضب، يقول: "نصحته بعدة نصائح منها عدم العمل على قطع الطريق على الأمة الاسلامية لصالح الدنمارك".
إن هذه القصة تقودنا الى ان هناك ظروفا موضوعية هي شرط بقاء بالنسبة لبعض الخطابات والايديولوجيات، واجواء الازمات بالنسبة لها هي اجواء مثالية، لا سلبية، وربما يكون من ابناء هذا الفريق من لا يعي القصة جيدا، ويتصرف بحسن نية! فيعكر الماء، ويحرج العرابين، ولذلك فإنني كنت أقرأ تعليق الداعية الشاب عمرو خالد، الحزين على معارضة الشيخ القرضاوي له، وهو يتحدث بطيبة كما يبدو فيقول: "الشيخ القرضاوي عالم جليل، تعلمنا منه اهمية الحوار، كمبدأ في كتبه (...)، ولكني لا أرى سببا لمعارضته".
وفات على داعيتنا ان الحوارالذي علّمه إياه الشيخ القرضاوي يصلح في حالات كسب الانصار، وتحسين العرض، ولكن اذا اصبح الانصار بمئات الآلاف، والمؤتمرون بإشارة الشيخ أعدادا كبيرة، فالأمر يختلف.
ويصبح "الفقه المطلوب"، والحالة الاصولية تعيش لحظة ازدهارها، هو فقه التمكين وليس فقه الدعوة... وهذا ما لا يدركه الا "فقهاء الحركة الاسلامية" الذين يعرفون ان الفتوى تتغير بتغير الزمان والمكان. وهنا، وفي الايام المقبلة، أعتقد بزيادة الهمسات الاسلامية والحزبية عن ان عمرو خالد واعظ وداعية وليس فقيها، وبالتالي فليس جديرا بقيادة تحرك فقهي، وبالمناسبة فإنني أرى أن هذا كلام صحيح جدا، ولكنني أقارب مسألة عمرو خالد من زاوية مختلفة، وليست زاوية من يمدح ويقدح لأسباب حركية عابرة. وقد قال ذلك التقويم عن عدم فقاهة عمرو خالد، كتاب محايدون من قبل، ولكن كان بعض الاسلاميين اذا قيل لهم ذلك يتضايقون ويعتبرونه هجوما على "الدعوة الاسلامية" التي حققت نجاحاتها، وحقق لها عمرو خالد وجيله "اختراقا" راق لهم. ولكن آن لعمرو خالد ان يسلم العهدة لهم، فقد أدى ماعليه، والباقي عليهم، أي تسيير وتفقيه وترشيد هذه الجماهير، واحتلاب مشاعرها في إناء العمل السياسي الموجه، رغم كل تعرجاته، الى غاية نهائية لا مناص منها، وهي: تجسيد وتحقيق فكرة المشروع السياسي والاجتماعي للأحزاب الدينية المسيسة.
الشيخ القرضاوي، وهو يصيح : الثأر الثأر، الغضب الغضب. كمن يحافظ على شرط البقاء، لأنه لو اعتذر الدنماركيون، بكل الشروط المطلوبة منهم، بل ولو قرروا، مثلا، مثلا يعني، تدريس السيرة النبوية لابن هشام كاملة في المدارس الدنماركية، فإن ذلك، حسب برنامج الحامين لمشاعر الغضب، يعد مكسبا أقل من مكسب بقاء الاصطفاف الجماهيري الديني وغير المسقوف بسقف واقعي، هذا الاصطفاف والتوتر الديني العام، هو ثمرة الثمرات من ازمة الدنمارك.. بالنسبة لدهاة القوم، ولكن الفتية الاسلاميين لا يدركون... ويحرجون من يدركون!.
وهنا يعيد لنا الشيخ القرضاوي مشهدا "جاهليا" من تراثنا العربي، وهو "الزير سالم" الذي كان البحث عن الثأر بالنسبة له "معنى" وجود، وليس تحقيق الثأر نفسه! هذا الثأر الذي تسنى له أكثر من مرة, ولكنه فضل الاستمرار في حربه, التي تساوي معنى وجوده. هذه الحالة، وللحق ليست صفة تخص رهط الشيخ القرضاوي، بل هي علة نفسية تضرب أعصاب المجتمع العربي، كما صاح ذات حنق الشاعر المصري الجنوبي أمل دنقل محذرا من سكب مشاعر الثأر في بحر الصلح والسلم:
لا تصالح
rlm;..rlm; ولو منحوك الذهب
أترى حين أفقأ عينيك
ثم أثبت جوهرتين مكانهماrlm;..rlm;
هل ترى
هي أشياء لا تشترىrlm;..rlm;
إنها الحرب قد تثقل القلب
لكن خلفك عار العرب
لا تصالح ولا تتوخ الهربrlm;!
وهكذا.. يعيد القرضاوي النصيحة المشوبة بنزيف الجرح النرجسي:
يا عمرو خالد: لا تصالح..
mshari@asharqalawsat.com