حلف شمال الأطلسي يستكمل دمج المغرب العربي تحت مظلته الإستراتيجية
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
تونس - رشيد خشانة
كرس الإجتماع المشترك الأول بين وزراء دفاع البلدان الأعضاء في حلف شمال الأطلسي ونظرائهم في البلدان السبعة المشاركة في مسار "الحوار المتوسطي" في صقلية منتصف الشهر الماضي توسيع المظلة الأمنية الأطلسية لتشمل بلدان الضفة الجنوبية للمتوسط باستثناء ليبيا. ويمكن القول إن نهاية الحرب الباردة جعلت الطريق سالكاً لإنهاء حال العداء التي كانت قائمة بين بلدان عربية صديقة لحلف وارسو سابقا وأخرى قريبة من الحلف الأطلسي، ما ساعد في انطلاق "الحوار المتوسطي" الذي أدمج كلا من مصر والأردن وتونس والجزائر والمغرب وموريتانيا، إضافة الى اسرائيل، في المنظومة الأطلسية اعتبارا من الإجتماع الذي عُقد في مدريد عام 1994، بعد خمس سنوات من سقوط جدار برلين.
وتطورت العلاقات خلال 12 عاما من "الحوار" إلى مناورات مشتركة وصولا إلى منزلة قريبة من العضوية وُضعت تحت عنوان "الشراكة". ولا ترمي هذه الصيغة الى التنسيق في الحرب الدولية على "الإرهاب" التي تقودها الولايات المتحدة وحسب، وإنما أيضا الى توسيع مظلة الحلف بغية إدماج البلدان الشريكة السبعة فيها، مع ما يترتب عليه من تطبيع للعلاقات العسكرية العربية - الإسرائيلية. وسبق للحلف أن اعتمد الصيغة نفسها مع بلدان أخرى في مناطق مختلفة من العالم، في مقدمها أوروبا الشرقية والبلطيق، اذ أعلن بعضها انضمامه رسميا للحلف، ما جعل جناحيه تمتد إلى أوسع دائرة عرفها في تاريخه، حتى يكاد يصبح الإمبراطورية الجديدة التي لا تغرُب عنها الشمس. وفي هذا السياق انضمت سبعة بلدان من تلك المنطقة للحلف في العام الماضي، إضافة للحرص على الإقتراب الجغرافي من روسيا التي استأثر الحوار معها بقسم مهم من مناقشات الحلف طيلة السنوات الماضية.
لكن واشنطن أعدت إطارا لامتصاص الخلافات وحلها بتهدئة مخاوف موسكو من ضرب طوق استراتيجي حول خاصرتها الجنوبية - الغربية، فأنشأتا مجلسا للحوار بين الحلف وروسيا في السنة 2002، واتفقتا على التعاون في المناورات العسكرية بما في ذلك السماح لقوات الطرفين باجتياز أراضي الطرف الآخر لدى إجراء المناورات.
دور في الشرق الأوسط
وتزامن مسار إدماج العرب في مظلة الحلف مع تواتر الحديث عن وضع
خطة تتعلق بدوره المستقبلي في الشرق الأوسط بعد استكمال الإنسحاب الإسرائيلي من غزة. واكتملت ملامح الخطة في الإجتماع غير الرسمي لوزراء خارجية البلدان الأعضاء في الحلف في العاصمة الليتوانية فيلنيوس في نيسان (أبريل) الماضي، لكنها جوبهت بمعارضة فرنسية لأي دور للحلف في الشرق الأوسط أو في دارفور، إضافة الى بقاء علاقة روسيا بتنفيذ الخطة غير واضحة. وساندت ألمانيا في أيام الثنائي غيرهارد شرودر - يوشكا فيشر الموقف الفرنسي معتبرة أن من السابق لأوانه الحديث عن دور للحلف في إحلال الأمن والإستقرار في الشرق الأوسط أو السودان، معترضة على الوجود العسكري المباشر للحلف في المنطقة. إلا أن هذا الموقف بدأ يتغير في ظل حكومة المستشارة انجيلا ميركل المتصالحة مع واشنطن.
ومع كل تلك التحفظات زار وزير الخارجية الإسباني ميغيل انخيل موراتينوس واشنطن قبيل اجتماع الحلف في فيلنيوس مكلفا باسم الإتحاد الأوروبي بحث مشروع الخطة مع نظيرته الأميركية كوندوليزا رايس. ولم يكن اختيار موراتينوس مصادفة، اذ انه أعرف زملائه بالتضاريس الطبيعية والسياسية للمنطقة، لذلك كانت خبرته الميدانية ضرورية للتعاون مع الجانب الأميركي في وضع خطة قابلة للتنفيذ. وكان موراتينوس واضحا في المؤتمر الصحافي الذي عقده في لوكسمبورغ قبيل مغادرته إلى فيلنيوس عندما أكد أن الهدف من الإجتماع غير الرسمي "تحديد مساهمة الحلف في مسار السلام في الشرق الأوسط".
وعزز تلك المعلومات القائد الأعلى لقوات الحلف الجنرال جيمس جونز عندما أكد أنه تلقى أوامر للإستعداد للعب دور في الشرق الأوسط في حال التوصل إلى اتفاق بين الفلسطينيين والإسرائيليين. وأوضح جونز ان السياسيين حدثوه عن هذه المسألة منذ عام 2003، مشيراً الى أنهم سبق أن حدثوه عن أفغانستان فلم يمنح الأمر اهتماما كبيرا في حينه، "لكن بعد ثمانية أشهر كنا في أفغانستان".
وعلى رغم المشاركة البارزة لوزيرة الدفاع الفرنسية ميشيل أليو ماري في اجتماع صقلية، يساور باريس شعور بأن الريح تجري ضدها داخل الحلف لأن موقعها، الأقلي أصلا، تضعضع بفعل إدماج بلدان البلطيق وأوروبا الشرقية المصطفة وراء واشنطن في هياكل "الأطلسي". وأكد وزير الخارجية الأميركي السابق كولن باول في حديث أدلى به العام الماضي لصحيفة "فيغارو" الفرنسية أن بلدانا أخرى طلبت العضوية ستندمج قريبا في الحلف، وأن هذا من شأنه أن يعمَق قلق باريس ويعزَز شعورها بالتهميش.
من هنا شكل إدماج بلدان شمال أفريقيا في مظلة الحلف ضربة واضحة لفرنسا التي كانت تحتكر تقريبا التعاون العسكري مع تلك البلدان، كما أنها ضربة للمشاريع الأوروبية لإنشاء نظام دفاعي إقليمي، أشهرها تشكيل قوات "يوروفورس" نهاية التسعينات.
جولة شيفر المغاربية
ويمكن القول إن الزيارتين اللتين قام بهما الأمين العام للحلف جاب دي هوب شيفر لكل من تونس في نيسان (أبريل) الماضي والجزائر في تشرين الثاني (نوفمبر) عام 2004 مهدتا للنقلة في العلاقات مع البلدان المغاربية.
ووُضعت الزيارتان المنفصلتان تحت عنوان الى السعي "معرفة الحاجات الدفاعية لبلدان الضفة الجنوبية للمتوسط". وركز شيفر محادثاته في تونس وقبلها في الجزائر على تطوير التعاون العسكري مع البلدين وتعزيز الحوار مع بلدان شمال أفريقيا "نظراً الى أهمية موقعها الإستراتيجي في المنطقة المتوسطية". وأوضح مسؤول شؤون "الحوار المتوسطي" في الحلف ألبرتو بين أن الحلف عرض على بلدان الضفة الجنوبية 20 مجالا للتعاون من ضمنها تأهيل القوات المسلحة وإصلاح المنظومات الدفاعية ومعاودة هيكلة أجهزة الاستخبارات العسكرية والقيام بمناورات مشتركة ومكافحة الكوارث الطبيعية، لكنه نفى أن يكون الحلف يملي على البلدان المعنية الإمتثال للبرامج التي يعرضها عليها، معتبرا أنها "حرة بانتقاء ما يناسبها من خطط التعاون المعروضة عليها". وأفاد بين في لقاء مع "الحياة" على هامش زيارة شيفر لتونس أن لجانا مؤلفة من خبراء أمنيين في الحلف والبلدان المتوسطية باشرت اجتماعات مشتركة منذ مطلع العام الجاري للبحث في آليات تعزيز التنسيق في مكافحة الإرهاب".
وأتت زيارتا شيفر لتونس والجزائر تنفيذا لـ"مبادرة التعاون" التي قررها قادة البلدان الأعضاء في الحلف في قمة اسطنبول عام 2004 في حضور الرئيس جورج بوش، والتي شكل قطب الرحى فيها التنسيق والتعاون "لتفادي وقوع هجمات إرهابية وإحباطها في حال حصولها". وتطورت المبادرة في الإجتماع المشترك الذي عقده وزراء خارجية البلدان الأعضاء في الحلف مع نظرائهم في البلدان المتوسطية السبعة في بروكسيل في كانون الأول (ديسمبر) 2004. وتطرقت المناقشات إلى الدور الذي سيلعبه الحلف في المستقبل في مجال تحديث جيوش البلدان المتوسطية، وبخاصة استخباراتها العسكرية، ومكافحة ما يسمى بـ"الإرهاب" والهجرة غير المشروعة، علما أن بوارج الحلف تتولى منذ فترة تفتيش السفن التجارية التي تعبر المتوسط للتأكد مما إذا كانت تحمل أسلحة محظورة أو مهاجرين غير شرعيين.
وفي هذا السياق جاء اجتماع وزراء الدفاع في صقلية أخيرا ليتوج تلك المشاريع ويضع الإطار النهائي للشراكة المتطورة بين الحلف والبلدان المتوسطية، انطلاقا من الشعور بأن الخطر الإرهابي تحرك من شرق أفريقيا حيث تعرضت السفارتان الأميركيتان في نيروبي ودار السلام لتفجيرين ضخمين نهاية التسعينات إلى غرب القارة، وتحديدا جنوب الصحراء.
ففي السنوات الأخيرة أثمر التعاون بين الحلف من جهة والبلدان المغاربية والأفريقية من جهة ثانية عمليات استخباراتية وعسكرية ناجحة أبرزها تفكيك شبكة كانت تخطط، طبقا لمصادر أميركية، لعمليات في مضيق جبل طارق عام 2002، وضبط الرجل الثاني في "الجماعة السلفية للدعوة والقتال" الجزائرية عبد الرزاق البارا الذي اعتُقل في تشاد في 2004 وما زال مسجونا في الجزائر.
وجدَد وزير الخارجية الأميركي دونالد رامسفيلد خلال جولته المغاربية الأخيرة التعبير عن مخاوفه من احتمال وجود نشاط لجماعات مسلحة في الصحراء، وإن عبَر رسميا عن ثقته بأن المنطقة المغاربية "في مأمن من الإرهاب".
مناورات مشتركة
وعلى خلفية ذلك التنسيق الأمني انتقل أخيرا إلى مرحلة إجراء مناورات مشتركة بين البلدان المغاربية و"الأطلسي" مع إشراك بلدان أفريقية في المناورات، اعتمادا على تقارير تصنف منطقة جنوب الصحراء بأنها "بؤرة رئيسية للجماعات الإرهابية في أفريقيا". وتعزز هذا التعاون بعد تواتر تقارير استخباراتية أفادت أن المغرب العربي بات أحد المعابر الرئيسة لعناصر تلك الجماعات نحو أوروبا تحت ستار الهجرة السرية. وبدافع من تلك المخاوف أجرت قوات أميركية وأطلسية مناورات مشتركة مع قوات تسعة بلدان مغاربية وأفريقية منتصف حزيران (يونيو) الماضي استمرت عشرة أيام وخُصَصت للتدرَب على مكافحة "جماعات إرهابية" بمشاركة وحدات من المغرب والجزائر وتونس وموريتانيا والنيجر ومالي والسينغال وتشاد ونيجيريا بقيادة الجنرال هولي سيلكمان قائد القوات الأميركية في أوروبا.
وجرت المناورات بعد عشرة أيام من مهاجمة عناصر تابعة لـ"الجماعة السلفية للدعوة والقتال" الجزائرية المرتبطة بتنظيم "القاعدة" حامية عسكرية شمال شرق موريتانيا ما أدى إلى مقتل أكثر من 15 جنديا وخمسة من المهاجمين. وكانت تلك المناورات تندرج في إطار خطة تدريبات مشتركة أطلق عليها اسم "المبادرة العابرة للصحراء لمكافحة الإرهاب " (Transaharian anti-terrorist initiative) والتي خصص لها الكونغرس 100 مليون دولار. وكان الجنرال سيلكمان صرح في باماكو في أعقاب مناورات العام الماضي بأنه "حيث يوجد إرهابيون سنكون بالمرصاد لملاحقتهم". كذلك أفاد مسؤول أميركي رفيع المستوى أن جماعات جزائرية مسلحة أعطت 200 ألف دولار لجماعات عراقية مصنفة على لائحة الإرهاب وأوضح أنها وصلت عبر أوروبا.
وفي هذا السياق أيضا ساهمت قوات خاصة من البلدان المغاربية الأربعة المشاركة في "الحوار المتوسطي" في عمليتين كبيرتين للحلف هما "أكتيف أنديفور" Active Endeavour) ( في المتوسط و"فلينتلوك" (Flintlock) في منطقة الصحراء. وعلى هذا الأساس زاد الأميركيون من حجم دعمهم المالي لبرامج التدريب المشترك مع وزارات الدفاع المغاربية وعززوا من حضور قواتهم في المنطقة. واستكمالا لهذا التنسيق أحكمت الخافرات والبوارج الأميركية والأطلسية الرقابة على السفن التي تعبر المتوسط بين مضيق جبل طارق وقناة السويس بحثا عن عناصر "إرهابية" محتملة أو أسلحة على متنها ولمنع تنقل أعضاء الجماعات من منطقة إلى أخرى. وكان لافتا أن زيارات قطع من الأسطول الأطلسي إلى موانئ جنوب المتوسط تكثفت في السنوات الأخيرة خارج فترات المناورات الجماعية، وبات "مألوفا" أن تزور مدمرات وبوارج من البلدان الأعضاء في الحلف الموانئ المغاربية مرات عدة في السنة لتعميق تبادل الخبرات والمعلومات.
ويُرجح أن تشكل العلاقات الجديدة مع الحلف عنصرا مهما في تحديث جيوش البلدان المغاربية الشريكة إن على صعيد التسليح والتجهيز أو على صعيد تحسين مستوى تأهيل القوات وتطوير أدائها. ويشكل هذا الجانب مظهرا من مظاهر الإدماج التدريجي للبلدان المغاربية في المنظومة الأطلسية والذي يعتبر الأميركيون المغرب مثالا ناجحا عليه، إذ أنه يُصنف باعتباره "الحليف الأكبر خارج دائرة البلدان الأعضاء". وتتجسد تلك العلاقة الخاصة من خلال منح تسهيلات واسعة للقوات البحرية والجوية للحلف في الموانئ والمطارات العسكرية المغربية. وأفيد السنة الماضية أن الحلف يدرس مشروعا لتحديث المطارات المغاربية الجنوبية المتاخمة للصحراء بغية تطوير مهابط الطائرات كي تكون قادرة على استقبال الناقلات العملاقة، تحسَبا لعمليات كبيرة محتملة. ولئن لم يُكشف عن مصير تلك الخطط فالثابت أن الحلف استكمل مسار إدماج المنطقة في منظومته، وإن كان لا يرغب بمنح بلدانها مقاعد بين أعضائه العاملين.