مشاهد من مسيرة الشيخ صباح الأحمد
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
الأربعاء: 2006.03.015
الشيخ صباح بنى جسور ثقة داخل الكويت
السفير: عبد الله بشارة
عرفت سمو الشيخ صباح الأحمد في بداية الستينات، وعملت مدير مكتبه لسبع سنوات قبل ذهابي الى الأمم المتحدة، وأعود منها الى مجلس التعاون كأول أمين عام لمدة اثنتي عشرة سنة، ثم اعود الى الكويت للعمل معه لمدة أربع سنوات، ولابد ان أتوقف امام بعض المشاهد في مسيرة هذا الإنسان الذي بدأ الخدمة العامة في الكويت منذ أكثر من خمس وخمسين سنة...
سمو الشيخ صباح خليط من النخبوية والشعبوية، بين ابن الأمير المميز وبين البسيط الملتصق بعامة الناس، بين المشارك في السلطة والزاهد فيها، بين المرتاح على بلاط الحرير وبين الجالس على المستورد من الحصير، شيء نادر يحركه في تحمل ثقل المسؤولية، لا يتحاشاها مهما تعقدت، ولا يتملص من اعبائها مهما بلغت كلفتها، تآلف مع المشاكل دون ضجر، وواصل اقتحامها دون تردد، شعبي مع الصيادين، ومشارك رقصة العرضة مع الصحراويين، يذهب الى الدواوين والى المقاهي ويزور المرضى ويتردد على مجالس الشعر النبطي ومجالس القلاليف، ويتسامر مع النواخذة.
شاهدته في هذه الفصول، وشاركته في مؤتمرات تعقد في فنادق متواضعة، لا يتأفف ولا يتضايق، كنا في صحراء موريتانيا في جو قاس، وكنا في فنادق نيويورك الفخمة، لا يهمه الفرق الكبير، ولا يتأثر من التقشف، يرتاح مع الناس بكل مشاربهم ومرئياتهم.
وفي السياسة يتحاور مع كل طيف، بنى جسور ثقة في داخل الكويت، يثق في الليبراليين، ويوده التقليديون، ويرتاح له السلفيون، وهو حقاني بلا تطرف، وصريح بلا تجريح، وله الجاذبية الشخصية والأهلية السياسية، سريع الالتقاط للمقترحات، يثق بمن يعمل معهم، ويعطيهم كل الصلاحيات، ليس مركزيا ولا محتكراً...
عملت معه في ثلاثة مجالات: في مجلس التعاون الذي جاء وليد مقترح من سمو الأمير الراحل، تبناه الشيخ صباح ورعاه فكرة ثم نبتة ثم واقعا ثم صرحا، ادرك بأن المجلس الظهر القوي مساند للكويت وادرك بأن صوت الكويت يستقوي بالمجلس، وان المجلس يعطي الكويت ميزة الاستماع ويصغي لما نقوله في الاجتماعات الوزارية ثم في لقاءات القمة، وبصراحة لم يبخل سمو الشيخ صباح على زملائه وزراء خارجية دول مجلس التعاون في اعطائهم تفاصيل المعلقات بين العراق والكويت، اذكر في شهر فبراير 1990، جاء المبعوث العراقي الى الكويت (سعدون حمادي) بلائحة من الطلبات المالية واخطرها المقترحات الأمنية، التي يريدها العراق كقواعد عسكرية وبحرية وممر استراتيجي الى ميناء الشعيبة وامتداد جغرافي على ساحل الصبية، وارتباطات امنية تجعل الكويت دولة "ملحق"، وقدم الشيخ صباح تقريرا كاملا مع صور من الطلبات الى أعضاء المجلس الوزاري ليشاركوه الرأي والمشورة...
خلال الحرب العراقية - الايرانية تولى رئاسة اللجنة السباعية العربية المنبثقة من الجامعة العربية لدعم العراق، وطاف العالم وزار عواصمه من اجل العراق، مدافعا مقتنعاً ومجنداً الدعم العالمي وراء مواقف العراق، اعتبره الرئيس العراقي السابق صدام حسين وزير خارجية العراق الأول، كل ذلك لأنه آمن بأهمية وقف الحرب العراقية - الايرانية لصالح الشعب العراقي ولصالح المنطقة لاسيما دول مجلس التعاون، ولصالح شعب ايران.
ذهب الى المرحوم آية الله الخميني - زعيم الثورة في ايران، شارحاً الموقف، ودخل البيت الأبيض دفاعا عن قضايا العرب، لم تكن له قضايا سوى مشاكل الآخرين، قبل العراق كانت مشاكل فلسطين وسوريا وموريتانيا، ومساع حميدة لا تتوقف بين اليمن الشمالي والجنوبي، وبين اليمن الجنوبي وسلطنة عمان، بين سوريا ولبنان، بين لبنان وفلسطين، بين المغرب وموريتانيا، بين شاه ايران والبحرين، آمن الشيخ صباح بأن التضامن العربي هو السبيل الامثل لتعزيز مكانة العرب، كان يؤمن بأن لا تضامن الا بإزالة الخلافات، وبهذا الايمان تحرك شمالا وجنوبا بدون توقف وبدون البحث عن راحة، وبلا ضجر، كنت معه في بعض المناسبات وكنت اتعجب من صبره، لا سيما في الفترة السيئة من عام 1966 بين مصر والسعودية حول اليمن، كانت المواقف متباعدة لكنه حاول واستضاف واقترح وناقش..
سمعته يناقش المرحوم عبدالناصر في ضرورة عقد القمة العربية المقررة لها عام 1966، وكان الرئيس المصري يهاجم الملك فيصل ولم يتقبل الشيخ صباح ذلك وانتقد الاعتماد على تقارير المخابرات، كان ولا يزال يكره تقارير المخابرات التي تسيىء ولا تروج الا الاكاذيب..
في يوم ما عام 1969 جاءه المرحوم عبدالخالق حسونة - في الرباط - بعد فشل مؤتمر القمة هناك، يريد مساعدته في تقديم العون الى مصر التي انهكتها حرب 1967، كانت روحه القومية اكبر من اعتبارات الفوز والخسارة..
ذهب عام 1973 الى نيكسون - مع الرئيس الجزائري الحالي بوتفليقة، والمرحوم عمر السقاف وزير الشؤون الخارجية السعودية، لم تعجبه مبررات الرئيس نيكسون للقرار الامريكي في تقديم اسلحة سريعة الى اسرائيل في الجسر الجوي، وانتقده بوضوح، لم يكن محبا لمداخلات الدول الكبرى، يخاف من الوقوع في شبكة المصالح الدولية على حساب الصغار، ولذلك نشطت الكويت في سياسة عدم الانحياز، كنت دائما اراه راسما ومنفذا للاستراتيجية الكويتية، لم يكن وزيرا، كان صانع القرار ومهندس الاستراتيجية ومنفذ بنودها، والمحافظ على بقائها.
في عروبيته السياسية الكثير مما يستحق الدراسة، لأننا تأثرنا بها، وحينما كنت ممثلا للكويت في الامم المتحدة تبنيت الخطة التي شيدها، لم يكن لنا في مجلس الامن قضايا، كان ينتقد المواقف الامريكية علنا امام الامم المتحدة، وفي الاجتماعات في واشنطن، وكان يرى في الجامعة العربية الدرع الواقي، لا غرب ولا شرق وانما عروبة سياسية نقية، لذلك رفض بسبب ايمانه بها عروض الدعم والوقاية، عندما "سأله صحافي امريكي بمن يمكن ان تستنجد عند الشدة - موسكو أم واشنطن، كان الرد القوي، استنجد بالجامعة العربية، مما اوقع السائل الامريكي في احراج..
ومع ذلك سمو الشيخ صباح ليس الرجل الرومانسي السياسي، وانما هو سيد البراغماتيين، يعرف اين مكامن القوة، ويعرف مسبباتها، ويعرف حجم الكويت، ويعرف حاجاتها، وعلى الرغم من الغزو مازال متمسكا بالمشاعر التي شدته طوال حياته، فلا تستهويه لعبة الكبار، ويرتاح في الاجواء التي يراها بعيدة عن هذه اللعبة..
عندما تتحدث عن الخليج قبل قيام دولة الامارات العربية وبعدها ومحاولاته في جمع اتحاد تسعى لضم الامارات والبحرين وقطر، نستذكر التركة الاخوية التي كان لها دور هام في قيام الاتحاد، وكذلك في بروز الخليج كمنظومة سياسية وحدودية داعمة لمجلس التعاون.
ذهب الى الخليج مؤيدا ومساعدا ومساهما، عندما كان الخليج بحاجة الى معاضدة الكويت سياسيا واقتصاديا وتجهيزا، كان هناك يلبي ويحاور وينصح..
سمو الشيخ صباح يكمل مسيرة الراحل العظيم الشيخ جابر، لهما نفس النهج، وايمانهما بالتوجه السياسي واحد، تجمعهما الحصافة السياسية، وربما تتباعد بينهما الاساليب، سمو الراحل العظيم مصمم وراع، وسمو الشيخ صباح مصمم ومفصل ومتابع، لا يكل من الاسفار والترحال.. شخصيا انا مدين له في حياتي، في عملي معه كمدير مكتبه في الستينات، وسفيرا له في الامم المتحدة، ومرشحا له كأمين عام..
أطال الله بعمره وحفظه برعايته..