الماغوط في آخر حديث: لا أنتمي الى طائفة بل الى أرض الله ـ 2
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
هنا الجزء الثانــي والأخير من الحـوار الـــذي تفــرّدت به "الحياة" وكانـــت أجرتــه معــه قبــل ثلاثــة أسابيــع في دبي لــدى تسلمـــه جائــزة العويــس.
في هذا الجزء يستعيد الماغوط ذكرياته الأليمة والجميلة متحدثاً عن الشعر والسياسة والمقهى والشارع...
- أجل، صنعت نفسي بنفسي ولم أكن في حاجة الى أحد.
gt; لماذا لم تحاول أن تتعلم لغة أجنبية؟- لم يهمني هذا الأمر. لم أتعلّم أي لغة أجنبية ولم أحاول طول حياتي. لا جَلَد لي على اللغة الأجنبية. إنني أحب الكسل والفوضى.
gt; أدونيس عاش ظروفك نفسها لكنه درس وتعلّم!- أدونيس شاعر مجتهد.
gt; لكن قيمتك الشعرية تكمن في أنها آتية من صلب الحياة نفسها!- ربما. أنا شاعر طالع من الحياة والتجربة وليس من الثقافة والكتب.
gt; هل قرأت كثيراً في حياتك؟- لم أكن أقرأ كثيراً.
gt; هل هناك كتب أثّرت فيك مباشرة؟- لا أذكر كتاباً بعينه. كافكا قرأته بالعربية. وكذلك رامبو. رامبو وفيرلين أحببتهما كثيراً. وهناك بودلير. لكنني قرأت لهم مختارات وليس دواوين بكاملها.
gt; وشعراء النهضة العربية؟- هؤلاء لم أقرأهم كثيراً. اكتفيت بما درّسونا من قصائدهم في مدرسة القرية.
gt; والشعر العربي القديم؟- قرأت بعضه. حتى المتنبي لم أقرأ ديوانه كاملاً. قصائد فقط. وكذلك العصر العباسي لم أقرأه كله. أحبّ أبا النواس. جبران قرأته كاملاً. وأحببت طه حسين.
gt; كيف تعلّمت أصول اللغة العربية؟- في القرآن. تعلمت في القرآن اللغة العربية. وقوّة اللغة لدي آتية منه. لدي إحساس عميق باللغة. وكنت درست القواعد على شيخ المدرسة أيام المراهقة.
gt; سعيد عقل منحك جائزته في السبعينات!- أجل، حصلت على جائزته وكانت قيمتها حينذاك ألف ليرة. وصرفتها بسرعة.
gt; لماذا اختارك سعيد عقل، هو الشاعر الذي يرفض قصيدة النثر؟- قال عني سعيد انني الشعر شخصاً. وقال انه أعطاني جائزته مع انني لست لبنانياً، لأنني "مرسحي كبير".
gt; هل تحب شعره؟- أحب سعيد عقل كثيراً مع أنه نقيضي. يكفي أن يقول: "مشوار جينا ع الدني مشوار".
gt; لك ذكريات مع الأخوين رحباني أيام بيروت!- كتبت ثلاثة أرباع "المحطة" باللغة العامية ولم يهمني أن يضعوا اسمي. ومسرحيتي "المهرج" استوحوا منها مسرحية "ناس من ورق" وأعطوني ألف ليرة. المصاري كانت لها قيمة في تلك الأيام.
gt; هل كنت تشارك في لقاءات مجلة "شعر" أو ما يُسمى "خميس" المجلة؟- أجل، كنت أشارك. لكنني كنت أضجر فأنسحب. لم تكن تهمني النظريات ولا الآراء النقدية. وفي بيت يوسف الخال كنت أنسحب الى البراد وآكل، فيما النقاش حامٍ. إنني أكره الحركات الجماعية وأحب الوحدة.
gt; يقال دوماً إنك شاركت في ثورة مجلة "شعر" من خلال القصائد الجديدة التي كتبتها!- من الممكن انني شاركت في ثورة "شعر" ولكن لا أعرف كيف. وكنت أقرأ هذه المجلة وأشارك فيها.
gt; كنت على صداقة حينذاك مع أدونيس؟- أجل، على رغم اختلافنا شعرياً. كل واحد لديه اجتهاداته الخاصة وانجازاته الخاصة. أدونيس شخص كريم. وعلى رغم كل ما حصل بيننا أظل أحبه. أما شعره فلا أحب منه سوى "أوراق في الريح" و"أغاني مهيار الدمشقي".
gt; ومن أحببت من شعراء مجلة "شعر"؟- أنسي الحاج صديقي الدائم. أحب لديه رغبته في التخريب. وهذه موهبة. شوقي أبي شقرا أحبه كثيراً، أحب جوّه الطفولي ولغته الجديدة فعلاً. ومرة أحييت أنا وشوقي أمسية شعرية مشتركة في الجامعة الأميركية حضرها بدر شاكر السياب. كان شوقي يكتب حينذاك قصيدة التفعيلة، لكن صوته كان خفيضاً فيما كان صوتي ملعلعاً. وكان كلما وصل شوقي الى القافية يمر القطار ويطغى صفيره عليها. وعندما انتهت الأمسية قال له السياب: "بطحك" الماغوط، فردّ شوقي: انه القطار.
gt; ونزار قباني؟- أحبّه كثيراً في غزلياته. أما شعره السياسي فلا. أحب أيضاً بدوي الجبل. أحببته في مطلع حياتي وكذلك نديم محمد. ولكن كما قلت لك لم تكن قراءاتي كثيرة.
gt; لماذا لم تحاول أن تكتب قصيدة موزونة ومقفاة في مقتبل حياتك كما فعل شعراء كثيرون من المدرسة الحديثة؟- لم أحاول أن أكتب قصيدة عمودية ولا موزونة. أنا غير مقتنع بالقصيدة العمودية. انني شخص لجوج وتلقائي وسريع. وهمومي لم تكن تسمح لي بالبحث عن القافية. كنت هارباً وجائعاً ومتشرداً أبحث عن مخبأ أو ملجأ يؤويني. ولم يكن لدي وقت للقافية. (يشتم القافية).
gt; قصيدة النثر كانت قادرة أكثر على احتواء مأساتك؟- أجل. وأنا اخترتها بالصدفة. وأحببتها حباً من أول نظرة وأول كرباج (يضحك). انها طريقة في التعبير الشعري، طريقة بديعة.
gt; أصبحت خلال ديوانك الأول "حزن في ضوء القمر" أحد رواد هذه القصيدة ولكن من دون أن تدرك بعدها النظري!- لم أعرف كيف أنظّر لقصيدة النثر. أنا كتبتها وأكتبها ولا يهمني البعد النظري. هناك من نظّر لقصيدة النثر من دون أن يكتبها.
gt; أنسي الحاج كان رفيقك في كتابة قصيدة النثر، لكن بينكما اختلافاً كبيراً. فأنسي جاءها من الحياة والثقافة في آن واحد. فما رأيك؟- لا أحب أن أتكلم عن قصيدة النثر لدى أنسي. أحب شعره فقط.
gt; ألم يساورك أي شك في القصيدة الجديدة التي تكتبها؟- لا. إنني أحترم أي قصيدة ولو كانت فاشلة. ولا أهزأ من أي قصيدة. أما خطب الرؤساء العرب فلا أحترمها ولو كانت صادقة وجدية. المرحلة كلها التي نعيشها الآن غير جدية.
gt; والحداثة كيف فهمتها؟- كتبتها ولم أنظّر لها. وإذا قيل لي إنني شاعر حديث، فهذا لا يعني لي شيئاً. ما يهمني هو الشعر.
gt; وإذا قيل عنك أنك لست حديثاً؟- لا يهمني. أنا شاعر حديث ولست تقليدياً. وأصلاً أنا لا أرد على الذين ينتقدونني. لم أحسد أحداً في حياتي. حتى عندما كنت في السجن لم أحسد أحداً. وأعتقد ان الذين يهاجمونني هم قلائل. وأتذكر ما قاله عني جوزف حرب: محمد الماغوط مثل فيروز لا أحد يختلف عليه. أحياناً أحزن من مقالات فيها تجنّ شخصي عليّ. هذا ما يحزنني فقط. التجني الشخصي أمر مقيت.
gt; أثرك الشعري بارز بوضوح في نتاج الكثر من الشعراء الجدد.- هذا يفرحني. أمر جميل أن أجد أثر قصائدي لدى الشعراء الشباب. إنني أعطيت أكثر مما أخذت.
gt; كان هناك صراع في الستينات بين مجلة "شعر" ومجلة "الآداب". لماذا انحزت الى "شعر" ولم تنشر في "الآداب"؟- حاولت "الآداب" أن تساومني وطلبت مني أن أكتب قصيدة عن جمال عبدالناصر. وقال لي سهيل إدريس انه ينشرها في الصفحة الأولى. رفضت طبعاً. أنا أرفض المساومة في الشعر. عبدالناصر أحببته بعد رحيله. عندما كان حياً كتبت مقالات ضده في جريدة "الصدى العام" في دمشق.
gt; وماذا عن الوحدة المصرية - السورية حينذاك؟- كانت هلاكاً لنا. وكنت ضدها.
gt; تكتب الكثير من المقالات لكنك لم تكتب مرة مقالة نقدية أدبية!- لا أذكر إن كنت كتبت عن كتاب أعجبني. لكنني لم أكتب بتاتاً نقداً أدبياً. النقد هذا ليس مهنتي. وهو في رأيي تخريب. يقال إن المبدع عندما يفشل يتحول الى النقد. هذا أمر لا يهمني.
gt; لكنك عملت في الصحافة الأدبية في جريدة "الخليج" الإماراتية.- أجل كان ذلك خلال العامين 1981 و1982.
gt; هل تتذكر ماذا فعلت في هذه الصحافة؟- حاولت أن أخلق في الصحافة الثقافية شيئاً جديداً. وأعتقد انني نجحت في هذه التجربة القصيرة ولم أواصل العمل الصحافي لأنني مللت سريعاً. وأذكر انني كنت محاطاً بشعراء شباً في الإمارات ومنهم أحمد راشد ثاني.
gt; أنت الآن في الثانية والسبعين، هل فكرت في الموت يوماً؟ هل تخافه؟- إحساسي بالحياة قوي، وذاكرتي قوية. لا أفكر في الموت بتاتاً. أعتبر الموت مثل الصديق، ألعب معه لعبة "الطاولة".
gt; هل تفكر بما وراء الموت مثل بعض الشعراء؟- لا أعرف ماذا هناك بعد الموت.
gt; هل أنت مؤمن؟- أجل، أنا مؤمن جداً. لكنني لا أصلي. لا أحب الشعائر. يكفي انني أكتب.
gt; هل تشعر بأنك تنتمي الى طائفة معينة؟- لا، لا أحس انني أنتمي الى طائفة. إنني أنتمي الى أرض الله.
gt; هل تعتبر أن جسدك خانك؟ ماذا تقول عن خيانته لك؟- دائماً كنت أعامل جسدي كعدو والجسد ينتقم من ثم. الجسد حقود كالبدوي ولا ينسى. تخونك يدك يوماً ثم رجلك ثم جسدك كله.
gt; والرغبة هل تخونك؟- الرغبة تبقى في الروح.
gt; ماذا يعني لك الكرسي المتحرك الذي تتنقل به؟- أحب الكرسي المتحرك. انه الآن صديقي. الكرسي المتحرك: هل هناك أجمل من هذه الصفة؟
gt; هل تشعر بالخجل إذا شاهدك أصدقاؤك على الكرسي هذا؟- بتاتاً. لا أشعر بأي نقص ولا بأي خجل. أصبح الكرسي صديقي. مثل العصا التي أتوكأ عليها. وأنا لم أخجل من شيء في حياتي ولم أندم على شيء. أنا أقول الأشياء التي يخجل الآخرون ان يقولوها.
gt; في العام 1948 جئت الى دمشق آتياً من قريتك السلمية. كيف تستعــيد صـــورة هذا الفتى الذي كنته؟- لا أستطيع أن أتذكر بوضوح ذلك الفتى الذي كنته. تعيساً كنت وفقيراً ومتشرداً. كنت هارباً دائماً، وهذا الهروب عشته فترة.
gt; هل عشت صدمة المدينة بعدما نزلت اليها من الريف؟- لم تصدمني المدينة في المعنى السلبي عند انتقالي اليها. لا شيء يصدمني في العالم. أمي كانت مقهورة ولم يغلبها شيء. لكنني عشت حياة فيها الكثير من الفقر والقلق وعدم الأمان.
gt; يحتل المقهى جزءاً مهماً من حياتك ونصوصك وذاكرتك، ماذا يعني لك المقهى؟- المقهى وطني غير المحتل.
gt; أي مقهى كان المفضل لديك؟- أحببت مقهى أبو شفيق في دمشق كثيراً.
gt; وبقية المقاهي التي كنت تجلس فيها مثل مقهى "الشام" الذي كنا نراك فيه؟- المقاهي تختلف بعضها عن بعض. ولكل مقهى جوه ووقته.
gt; هل أنت شاعر مقهى؟- منذ شبابي أجلس في المقاهي. أحياناً كنت أكتب فيها. أحياناً أقرأ. أحياناً أضرب مواعيد غرام. أحياناً أجلس من دون أن أفعل شيئاً آخر. انني أحب فكرة المقهى.
gt; والشارع، ما قصة علاقتك به؟- الشارع وطن أيضاً. الشارع سرير. حضن أم. عبّ جد. أحب الشارع أكثر من البيت. هذا الأمر كان أيام الشباب والصحة الآن أحب بيتي. البيت أصبح هو الوطن. لم يبق لي من العالم سوى هذا البيت.
gt; لكنك تعيش في البيت حالاً من العزلة! هل تتحمل مثل هذه العزلة؟- أستطيع أن أعيش عشر سنين وحيداً، لا أكلم أحداً. إنني كائن يؤثر العزلة. بدءاً من الغروب أشعر بالكآبة وترافقني في المساء.
gt; أنت شاعر حزين! هل حاولت أن تكشف سر هذا الحزن لديك؟- لا. لم أحاول. إذا بحثت عن جذور هذا الحزن فإنني أخرّبه.
gt; أي وقت هو الأنسب لديك للكتابة؟ الصباح؟ الليل؟- لا وقت أستطيع أن أقول عنه إنه الأنسب للكتابة. أكتب عندما أكون في حاجة الى أن أكتب. أحياناً تخطر في بالي فكرة أو لمعة وأنا على الطريق، فأسجلها على الدفتر.
gt; ما الذي يحفزك على الكتابة؟- حوافزي على الكتابة كثيرة. الظلم والقهر هما من أقوى هذه الحوافز. الحب. الألم. الحزن... طوال حرب حزيران لم تسقط دمعة من عيني. أغنية لفيروز أو نجاة أو عبدالحليم حافظ تبكيني.
gt; والنشيد الوطني؟- لا يعني لي شيئاً ولا يهمني. عمري لم أسمع هذا النشيد الى آخره. هنا تكمن أهمية الكرسيّ المتحرّك. هم يقفون عند النشيد الوطني وأنا أجلس.
gt; عندما تنظر الى الشارع من نافذتك، هل تحنّ اليه؟- كثيراً، لكنني لم أعد أخرج اليه. لم أعد قادراً على الخروج.
gt; مدينتان تحضران في شعرك وحياتك: دمشق وبيروت؟ ماذا عن علاقتك بهما؟- أحبّ هاتين المدينتين. هما الوحيدتان في حياتي. أحبّ بيروت أكثر من دمشق ولا أدري لماذا. دمشق طردتني وبيروت استقبلتني، فتحت لي أبوابها كإنسان وشاعر. فتحت لي منابرها ومطابعها ومجلاتها. أثرت بيروت فيّ كثيراً كشاعر. بيروت كانت لي بمثابة الأم. كنت أحبّ مقاهيها وأرصفتها، وكذلك شارع الحمراء الذي كنت أمشي فيه. بيروت تعيش في قلبي. وما أقسى الذين شبّهوها بالعاهرة. هؤلاء لم يعرفوها. دمشق هي مدينة الذكريات أيام جئت فتى. أحب شوارعها وحاراتها. واليوم أشعر بالغربة فيها. انها تنام بين أوراقي.
gt; ماذا يعني لك الفرح الذي قلت انه ليس مهنتك؟- لحظة الفرح لا تجعلني أكتب. ولكن في أحيان يكون الفرح جميلاً ولو عابراً.
gt; هل ما زلت تصرّ على أنك "حاجب على بوابة الحزن"؟- أجل. هذه القصيدة أليمة حقاً.
gt; ماذا يعني لك الالتزام شعرياً؟- أنا شاعر مقاومة ولكن ليس على طريقة الشعراء المنبريين الذين يصيحون ويصرخون. الشعر مقاومة.
والمقاوم يدخل في أي زاروب أو أي حارة ويخاطب الناس. وما لا أحققه من طريق الشعر أحققه من خلال المسرح أو المقالة أو السيناريو. انني أحبّ القارئ ولا أتاجر به. أحب دائماً أن أعطي لا أن آخذ.
gt; هل وجدت نفسك في المسرح مثلما وجدتها في الشعر؟- أنا نفسي في الشعر والمسرح. وحتى في المقالة. ليس من اختلاف بين الشعر والمسرح ما دمت أعبّر عن همومي وأفكاري ومشاعري. أنا أكتب ولا همّ أن يكون ما أكتبه شعراً أو مسرحاً.
gt; هل شعرت يوماً بأنّك عاجز عن الكتابة؟- لا مشكلة لدي مع الكتابة أو مع الورقة البيضاء. اذا لم يكن لديّ قدرة على الكتابة لا اقترب من الورقة. الكتابة تأتي وحدها، هكذا بلا مقدّمات.
gt; والقصيدة كيف تكتبها؟- أكتبها دفعة واحدة، ثم اشتغل عليها. اختصرها، أضبطها، أضيف اليها. أحياناً تكون القصيدة صفحة فتصبح سطرين. وأحياناً تكون سطرين فتصبح قصيدة طويلة.
gt; هل شعرت يوماً بالملل من الكتابة؟- لم أملّ من الكتابة في أي يوم. انها حياتي. وسأظل أكتب حتى آخر لحظة.
gt; هل تشعر أحياناً بأنّك تكرّر نفسك بين القصيدة والمقالة؟- أنا لا أكرّر نفسي، ولكن لديّ ثوابت: الحرية، الخبز، الحبّ...
gt; هل ترمي نصوصاً لك لا تراها موفّقة؟- لا أرمي أيّ نص. هناك، في أي نص شيء ما.
gt; هل تتابع ما يحصل في العالم.- أجل أتابع ما يحصل من بعيد. نشرة الأخبار لا أكمل مشاهدتها الى النهاية. الخطب السياسية لا أتحمّلها. حتى مقالات المديح التي تكتب عنّي لا أقرأها كلّها.
gt; ما السبب؟- ربما لأنني انسان ملول.
gt; والبرامج التلفزيونية؟- قليلاً ما أشاهد التلفزيون. والمسلسلات لا أتابعها. حتى الدراما السورية لا أتابعها.
gt; أنت تحب الموسيقى؟- كثيراً. عشت ثلاثين سنة و"الوكمان" على أذنيّ. أسمع الموسيقى ساعتين وثلاثاً يومياً. أحبّ بيتهوفن وشوبان وفاغنر وخاشادوريان والرحبانيين... وكنت أحب الربابة. وأسمع القرآن مجوّداً.
gt; الرقابة هل ما زلت تواجهها؟- واجهتها كثيراً، حتى أصبح الرقيب في داخلي. لكنّ الرئيس حافظ الأسد قال لي مرة أكتب ما تشاء ولن يراقبك أحد.
gt; هل تأثرت لما يحصل في العراق؟- كثيراً.
gt; ... وفي لبنان؟- تألمت كثيراً للاغتيالات التي حصلت في لبنان. هذا أمر يصعب تصوّره.
gt; كيف تبدأ نهارك؟- لا أعرف متى أصحو ولا متى أنام. نومي أصبح قليلاً. أغفو ثم أصحو ثم أغفو، حتى ليختلط عليّ النهار والليل.
gt; والوقت كيف يمضي؟- أدعه يمضي وحده.
واقرأ أيضا كلمة خالدة سعيد:
الكلمة هي الحرية
هكذا ذهب محمد الماغوط، البدوي المشعث الوعر الغاضب الحنون، "الحاجب القديم على باب الحزن"، الذي تُبكيه القصيدة ويُبكيه "ضوء القمر ورائحة الأطفال" ويبكيه ذكر شام وسلافة.
ذهب الشاعر الذي التقط الكلمات المهملة التي نزلت الى الأزقة وزوايا البؤس وجعلها قصائد ترتعش بالدهشة.
ذهب البدوي الذي ظل مصرّاً على بداوته على رغم المدينة، بكل معاني البداوة، النبيل منها والوعر. ولعل هذا ما أهّله ليقاوم الانحناء في عالم لا يرحم الكبرياء. وقد نال في حياته جوائز وأوسمة ولكن أعظم أوسمته انه لم يتنازل ولم ينكسر.
"من الأطراف" جاء، و "من حدود البادية" كما كان يحبّ أن يؤكد باستمرار. يحمل في روحه الامتداد وعشق الحرية ويكره الجدران الضيقة. ولكن الجدران الضيقة والسجون ظفرت به وتركت في خياله أثر مخالبها. فلم يجد ما ينقذه إلا فسحة الشعر. كان الشعر حريته الوحيدة وانتماءه الحقيقي.
من سجن في سورية خرج الى لبنان حيث عرف الضوء وتنفّس الشعر والصداقة. ثم سُجِن في لبنان (1958) وأعيد الى سورية ليُسجن فيها من جديد. فلما أطلق سراحه عمل مدة سنة في جريدة ثم سجن نفسه في غرفة مدة سنة خوف السجن. لكن الشعر وسنية كانا معه.
هكذا نفهم هذا العنوان: "غرفة بملايين الجدران". ونفهم المسرحية التي كتبها في ذلك السجن "العصفور الأحدب"، حيث الشخصيات في قفص، والقفص في صحراء جافة، الشخصيات تشبه الدجاج والكلام بينها شظايا كلام. "شظايا"، إن أمكن استقراء مفرداتها فلا يمكن نظمها في خيط للمعنى بسبب من تهشم السياق والرباط. جمعٌ فقد حرية الحركة ففقد انسانيته ثم فقد لغته وبات المعنى سجين أصوات هي أصوات دجاج حلّت به نعمة الجنون. هذه هي رسالته: الكلمة هي الحرية، الحرية هي المعنى.
كنت كلما سألته عن حياته اختصرها في بضع كلمات: "الشعر منزلي وانتمائي. كان الشعر ملاذي الوحيد".
لكنه خرج من عزلة الحزن وأسس عالمية الحزانى:
"... دموعي تسيل من قارة الى قارة/ حيث فمي يلامس أكثر من نهر" أو "أعرف أن نهر الجائعين سوف يهدر ذات يوم".