وطن الماغوط
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
الخميس: 2006.04.06
فنجان قهوة
أبو خلدون
لم يقدر لي الالتقاء بمحمد الماغوط، وربما كان ذلك تقصيراً مني، أو ربما لأنني كنت أهابه، فقد كان الماغوط ldquo;أديبا استشهادياrdquo; قبل أن يعرف كفاحنا العربي العمليات الاستشهادية بفترة طويلة، وكان يخوض بمفرده، باسم كل المقهورين، حرباً شرسة ضد كل قوى القهر، من دون أن يعقد حلفا مع أحد، ومن دون أن يأخذ توكيلا من أحد، وقد ذهب إلى هذه الحرب متخليا عن كل الأسلحة التقليدية، لا ldquo;أرغن ستالينrdquo; ولا قاذفات صواريخ ولا أسلحة دمار شامل، ولا قنابل عنقودية أو جرثومية أو ليزرية أو فراغية، وإنما اسلحة ldquo;من صنع منزليrdquo; يعدها بنفسه: كبسولات موقوتة من الشعر النووي شديد الانفجار، ونكات يجمعها من ألسنة الناس العاديين ويبثها في مسرحياته ومقالاته الحوارية.
محمد الماغوط لم يفتح دكاناً، ولا سوبر ماركت، ولم يحاول اجتذاب الزبائن بالتفنن في تغليف بضائعه بورق الهدايا المصقول والأشرطة الملونة، ولم ldquo;يتعنترrdquo;، ولم يغرقنا بالعبارات الانشائية والشعارات الزائفة ولم يعتزل كالثكالى في منزله يبكي على أمجاد أمته القديمة، وإنما كان يرتدي دشداشته، ويجلس على الكنبة، ويسري في مهمات غامضة يرتاد فيها أقبية المقهورين الذين كانوا يغنون للوطن، فلا يسمع الوطن صوتهم، ثم يحرر باسم مختطفيه مذكرات جلب للمثول أمام محكمة التاريخ.
وعندما جمع حسني البورزان حاجياته الخاصة في شنطة وجلس في مقهى ldquo;غربةrdquo; ينتظر طائرة تمر في الجو لتنقله إلى البرازيل، لم يفعل ذلك لأنه يرغب في الهجرة عن وطنه، وإنما لأن وطنه لم يعد وطناً، كما ان حق ابناء هذا الوطن في الحياة الحرة الكريمة تعرض للمصادرة، وفي كل الحالات، كان هنالك ظالم وراء كل مظلوم، ووراء كل مواطن فقير هنالك متاجر يتمتع بالسلطة والجاه والثروة سرق منه حصته في الحياة. والفقير الذي يعرض أبناءه للبيع على عربة خضرة في ldquo;كاسك يا وطنrdquo; إنما يفعل ذلك لأن هنالك من سد كل أبواب الرزق أمامه، وكم يبدو الماغوط رائعا عندما يقول في مسرحية غربة إن الشعب لم يعد بحاجة لأن ينسج علم بلاده من دموع الأمهات، في الليالي الحالكات، بخفقات من أكبادهن، وقبلات من ثغورهن كما يقول الشاعر، إذ يكفي أن نأخذ لباسا داخليا ونجعله علما.
وفي المسرحيات التي كتبها الماغوط لدريد لحام، لم يكن دريد هو الذي يظهر على المسرح، وإنما الماغوط وقد وضع على رأسه طربوش غوار ولبس قبقابه التقليدي، ووقف متنكراً يتحدث إلى الناس عن طريق محاورة الممثلين الآخرين.
لقد كانت روحه تتجلى في النص، وتمارس عملية استلاب ضد الآخرين. ولم يكن الماغوط يضيع وسط الزحام، وإنما كان يبدو شامخا حتى أمام ممثل مثل دريد لحام.
قبيل وفاته، قرأت له: ldquo;كلما اكتب سطرا، أشعر بأن حياتي نقصت سطراrdquo;، وقد كتب الماغوط كثيراً إلى درجة أنه استنزف حياته.