ميشال عون وسمير جعجع وبيئة كل منهما 2 من 2
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
بعد أن تناولت حلقة الأمس الاختلاف بين تقليدين في سياسات المسيحيين اللبنانيين، هنا التتمة الأخيرة:
تستوطن القاعدةَ العريضة للعونيّين، وهي تتعدّى المارونيّ الى المسيحيّ، تصوّراتٌ تعكس، بقدر من الأمانة بعيد، التراكيب الاجتماعيّة لبيئاتها. فرموز الطبقة الوسطى وكوادرها المتعلّمة يلعبون هناك دوراً أساسيّاً هو إيّاه الذي يلعبونه في مجتمعهم الصغير الحديث نسبيّاً والواعد، على شيء طفيف من القلق، اقتصادياً.
تكفي نظرة سريعة الى "برنامج" التيّار الاقتصادي النيو - ليبرالي الذي تحتلّ الخصخصةُ صدارته، أو الى الخلفيّة المهنيّة والتعليميّة لنوّاب كتلة عون المسيحيّين، لتوكيد هذا التموضُع في النصف الأعلى من الهرم الطبقيّ. فهناك، مثلاً، ثلاثة محامين وثلاثة أطبّاء وثلاثة ضبّاط كبار متقاعدين وأستاذ جامعيّ وطبيب أسنان ومهندس واثنان من خرّيجي الجامعات الأجنبيّة. ووراء هؤلاء جميعاً، يقف رهط من كبار المتموّلين الذين يوحّدهم، فضلاً عن عقد الطائفة، أمران: عداءٌ لظاهرة رفيق الحريري ونفيٌ لكل ما ترتّب عليها في الخريطة الاقتصاديّة، وتعالٍ طبقيّ وأخلاقويّ على "القوّات اللبنانيّة" بصفتها "زعران" الفقراء الموارنة.
وبعض ما يتأدّى عن ذلك أن المنتمي الى "التيّار" لا يتعرّض الى مخاض تحويليّ كالذي يعانيه المنتسب الى "حزب" انبثق من القاعدة وعانى مسيرة الوصول الى قمّته. فالعونيّ يغدو عونيّاً من غير أي تبدّل في مألوفه الأهليّ أو في دائرة علاقاته القرابيّة التقليديّة ومعهوده السلوكيّ. وهذا، بدوره، يعزّز استمراريّةً محافظة أخرى مع الماضي، يحرسها قدوم "الجنرال" من مؤسّسة الجيش وصدامه بـ"مؤسّسة" الميليشيا وبالعالم الذي تجسّده تطاولاً على المَراتب المعطاة والأنساق العاديّة أو المعتادة. فكأننا، والحال هذه، أمام العائلة المسيحيّة المحافظة وقد وجدت لها فرانكو صغيراً، وجهه وقسماته تشبه وجه البورجوازيّ الصغير العاديّ وقسماته، يقيها عثراتِ التحوّل وفوضى الأزمنة واضطرابها.
وهذا، معطوفاً على الضرورات الانتخابيّة التي يُفترض فيها أن تخدم "الجنرال"، يفسّر بعض أسباب التحالف "الغريب" مع قوى مسيحيّة تقليديّة، كسليمان فرنجيّة في زغرتا أو ميشال المرّ في المتن الشماليّ. ذاك أن هؤلاء بعض صورة لبنان كما يغفو عليها ميشال عون ويصحو. فهو، مثلاً، لم يطرح على نفسه محاربة "الإقطاع"، على رغم نبرة عداء "حداثوي" وتنظيمي لـ"إقطاعيّة" و"إقطاع سياسي" يرادفهما حصراً مع الجنبلاطيّة والحريريّة. وهو لم يرفع، بالطبع، لواء مكافحة "الرأسماليّة"، بالمعاني المطروقة في كثير الأدبيّات الشعبويّة. وبما أنه زعيم فوق الزعامات، تنضوي تحته قوى محليّة لا يجد ما ينافسه فيها ولا تجد ما يهدّدها فيه. وللقوى المسيحيّة تلك ترتسم ملامحُ قد تتضارب في مواصفات بعينها، الا أن أغلبها الساحق انتهى به المطاف، في العقدين الأخيرين، الى التظلّل بسوريّة ونفوذها. حتى القوميّون السوريّون، وكانوا ذات مرّة جزءاً من المألوف السياسيّ والتحقوا، بصفتهم هذه، بكميل شمعون مثلما ناهضوا الجنبلاطيّة، يمكنهم أن يفيئوا الى الخيمة العونيّة. فهنا، لا تبدر جفلة تتسبّب بها "عقيدة" أنطون سعادة المُذيبة للبنان أو نشاطات منسوبة الى تابعه أسعد حردان الوثيق الصلة بمراكز النفوذ السوريّ.
مع هذا، نكاد لا نرى "الجنرال" يفوّت فرصة تنديد بـ"الفساد"، جاعلاً منه أحد مداخله الى معركة سياسيّة حصراً، وموجّهاً جهود دارسيه وباحثيه الى رصده والتدقيق في صغيره وكبيره. لكن "الفساد"، كما تطرحه المطالعة العونيّة، قابل للتفكيك، ومن ثمّ الردّ الى شخصين أو ثلاثة أو حتى عشرة هم حكماً عقبة في طريق الطموح الرئاسيّ المواظب والمكين. إلا أنه، في المقابل، "فساد" لا ينطوي استنطاقُه على أية دلالة مُركّبة تنجرّ عنها طاقة تحويليّة للمجتمع وثقافته السياسيّة، كما لا تهدّد مكافحتُه، بصفته أشخاصاً، أشخاصاً آخرين يحظون، برضا "الجنرال". ويعني هذا، بين ما يعنيه، إبقاء ذاك "العيب"، الذي يشبه "عيب" الطائفيّة التي تُجتثّ بالعلمنة، أشبه بـ"ورقة" للاستخدام، الفضائحيّ حيناً، المتقلّب غالباً تقلّب الأحلاف والمصالح العارضة.
وقصارى القول إن ثوريّة الشكل ومحافظة المضمون تتعايشان مع خواء سياسيّ لا يصمد أمام امتحانات تتعدّى الموقف الموجّه الى جمهور سهل.
الكتائب وبشريوتحضن "القوّات اللبنانيّة"، من جهتها، حالة معاكسة. فهي، على النحو الذي استقرّت عليه بقيادة سمير جعجع، خلاصة الزواج الصعب والمعقّد بين "حزب الكتائب اللبنانيّة" وتقليده، وهو ثاني تقاليد الحياة السياسيّة للمسيحيين، وبين منطقة الشمال المارونيّ، لا سيما بشرّي.
فأما التقليد الكتائبي فيقوم، فضلاً عن حزبيّته وهي أسّ تعريفه، على الإقرار بالواقع الطائفيّ والانطلاق منه ومن "حصصه" لبناء تسوية عليه تعكسه وتترجمه. وهنا يُصار الى افتراض الوطنيّة شراكةً بين مختلفين، ومن ثم بين لغتين، بدلاً من طمس الخلاف ودعوة المسلمين الى وحدة تتمّ على أرضيّة الوعي والتصوّر المسيحيين.
والشريك، عملاً بالتجربة الكتائبيّة، هو السنّيّ أساساً. ذاك أن الشيخ بيار الجميّل، مؤسّس الحزب وقائده حتى رحيله، لم يكن يملّ التذكير بالشراكة مع رياض الصلح التي نجم عنها، بحسب الرواية الكتائبيّة، استقلال 1943، ولا بـ"البسطة والجمّيزة" رمزاً لعناصر النزاع والاتفاق بين "جناحي" اللبنانيين. ولئن أوحى بشير الجميّل، إبّان صعوده العابر، بأنه يغازل ثنائيّة مارونيّة - شيعيّة تحلّ محلّ تلك المارونيّة - السنّيّة، فهذا ما طوته ظروف عدّة قبل أن يُقتل بشير نفسه، ولم يكن انقضى غير أيام على بلوغه الرئاسة.
وأما في ما خصّ بشرّي، والشمال المسيحيّ عموماً، فـ"التعايش" يعني طرابلس والضنّيّة وعكّار قبل أن يعني محافظات وأقضية أبعد. وهي كلّها مناطق سنّيّة في شمالٍ يخلو، على نحو يكاد يكون تامّاً، من الشيعة. ومثلما تفترق "سنّيّة" جعجع عن "شيعيّة" عون، يختلف "عدوّ" الأوّل عن عدوّ الثاني. فإذا صحّ أن قائد "القوّات" ليس مولعاً بـ"الفلسطينيّ" الذي كان حزبه في مقدّم من جابهوه، بقي أن خصمه الأوّل، من منظور شماليّ هو "السوريّ" الذي يختفي وراء قمم متاخمة. وفي الإطار هذا، يسع التقليدَ الكتائبيّ، وقد شارك ممثّلون عنه في وزارات ومسؤوليّات سياسيّة، أن يرى الى العدوّ بما يتجاوز حقل الرماية والرؤية المباشرة. فإذا كان عون، من خلف مدفعه، يرى الأرض والمكشوف فوقها، استطاع الكتائبي، مبدئياً على الأقل، أن يرى المختبئ في الوراء وفي الأعلى، وأن يستعيد نشأة الحزب نفسه بصفتها رداً على مطالبات "مؤتمر الساحل" بالوحدة مع سوريّة.
بيد أن بشرّي تحيل الى أمور أخرى كذلك. فهي من مناطق الصفاء المارونيّ كما أنها من الينابيع الأولى للمارونيّة اللبنانيّة في معناها الطبيعيّ الأوّل. فهي تقع بين وادي النسّاك القدّيسين والأرز المحاط بالميثولوجيا والتسحير، قريباً من شربل، القدّيس الماروني الحبيس. ويرى العارفون بالشمال أن غير المارونيّ، حتى لو كان مسيحيّاً، يبوّبه البشراويّون ما بين غريب ومُستَغرَب. وتندرج بشرّي، فوق هذا، في بقاع البؤس المسيحيّ حيث المزارعون الفقراء وأصحاب البطالات السافرة والمقنّعة والهجرة الى الأحياء الشرقيّة من بيروت والى أطراف حاضرات الجبل. وجعجع نفسه، هو الذي حفّت بحياته العائليّة صور القدّيسين وروائح البخور والزيت المقدّس، يتفرّع عن أسرة شديدة التواضع كان ربّها، فريد جعجع، رقيباً في الجيش. لهذا يلوح سهلاً على كثيرين أن ينتقدوا، بقدر من تعالٍ طبقيّ مُحوّر، ميليشويّة "الحكيم" الذي مارس الحرب بيديه، بينما يتعفّفون عن انتقاد قادة آخرين شاركوه الممارسة إياها إنما بوساطة أتباع ومحازبين تصدّوا للمهمّة.
ويجوز الظنّ بأن هذا الطابع "الفقراويّ" لـ"القوّات" الذي يضاعف حاجتها الى قائد "قدّيس"، كان ليبدو أوسع نطاقاً لولا عمليّتان لازمتا تاريخ القوّاتيين، مرّةً بصفتهم حزبيين ومرّةً بصفتهم مقاتلين. فالصراعات المتتالية في ما بينهم عزّزت طابعهم الشماليّ، والبشراويّ تحديداً، وجاء صدامهم بالمؤسّسة العسكريّة، حين كان ميشال عون على رأسها، يفصلهم عن بيئة فقيرة ساهم انحيازها الى العونيّة في حرمانهم بعض البُعد الشعبيّ والوطنيّ وإسباغه على "الجنرال".
لكن تعريفهم الاجتماعي ينهض، كذلك، على أن عائلات بشرّي وجوارها لم تنفصل عن الحمائل الدمويّة الموسّعة الأقرب الى العشائر. هكذا تلاقى الفقر والصفاء المذهبيّ والقيم التي لم تبرأ من تضامن قرابيّ يحفّ به اختلاط أنظمة القرابة. وكان لتلاقٍ كهذا أن أناط بموارنة الشمال، موارنة "الأصل"، مهمّة "إنقاذ" موارنة الجبل الذين باتوا، منذ عامٍ، قاعدة الانطلاق لمشروع ميشال عون.
وهي وظيفة شابتها رثاثة اجتماعيّة ربطت بين مثلّث النزوح الى الضواحي في ظل تفكّك البُنى العشائريّة، وتبعيّة العائلات لما ترسّب عن البُنى تلك، والتكوين الميليشياوي الجلف والعدوانيّ الذي كانته "القوّات اللبنانيّة". أما "الحكيم" فكان، بدوره، يحاول أن يتصدّى للوظيفة المذكورة في "حرب الجبل" أواسط الثمانينات كأنه يكرّر، بهذا، محاولة سابقة لشماليّ آخر، هو الزغرتاوي يوسف كرم الساعي، أواخر القرن التاسع عشر، الى "إنقاذ" أبناء ملّته المقيمين جنوب الشمال.
و"القوّات"، بطريقتها، نتاج ثوريّ داخل مجتمعها الصغير، وإن أوغلت في رجعيّة التعامُل مع الانقسام الطائفي بصفته جوهراً الى الخلود أقرب. فما قبلها الكتائبيّ، لا سيما في الشمال، وُلد من رحم الصدام مع الزعامة الزغرتاويّة لآل فرنجيّة، آن كان الانتساب الى حزب بيار الجميّل معاناة صعبة توّجها مقتل الكتائبيّ جود البايع، قبل حصول جريمة 1978 الشهيرة في إهدن. وحتى في بشرّي إيّاها، لم يكن تعايش "القوّات" هيّناً مع زعامات عائلية وسياسيّة بلغ منها الهرم مبلغاً، كقبلان عيسى الخوري أو حبيب كيروز. أما داخل الحزب، ومن ثمّ داخل الميليشيا، فجسّدت الحالة الكتائبيّة - القوّاتيّة تمرّداً متقطّعاً على آل الجميّل أنفسهم، بمن فيهم بشير مؤسس "القوّات". ولم يفارق التململَ المتواصل الذي عبّر "الحكيم" عنه بُعدٌ اجتماعيّ ما، تبدّى مرّةً طبقيّاً مناوئاً لعائلات التقليد، بشراويّةً كانت أم زغرتاويّةً أم كتائبيّةً، مثلما تبدّى مناطقيّاً مرةً، ومُركّباً يحتوي على الدلالتين مراراً.
و"القوّات"، والحال هذه، تقيم في موقع التعارُض مع العائلات - السلالات التي تواضع قاموس السياسة اللبنانيّة على وصفها بـ"البيوتات". وهو تعارُض سطع مرّتين على الأقل في سيرة جعجع، أولاهما، حين اعتصرته، من موقعيهما المتقابلين، سلالتا فرنجيّة والجميّل في صراعهما الضاري، والثانية، حين نجا ممثّلو السلالات، بعد اتفاق الطائف، وسيق وحده الى الزنزانة.
لهذا، فالدراميّ في جعجع أكثف من مثيله في عون الذي بدا، بامتياز، رجل منفى لجهة اصطباغ النفي بالخارجيّة وباستسهال البتر عن الأجسام الأصليّة. فهو تعلّم، في الحزب والميليشيا، ما لا يُحصى من دروس تتوزّع مصادرها بين السياسة والمصالح والأفكار والمناطق والمؤامرات والدسائس في وقت واحد.
فمن بشير وأمين الجميّل الى إيلي حبيقة وميشال عون، ناهيك عن العائلات الشماليّة، تشكّلت لدى "الحكيم" خبرة معقّدة في معترك التنازع بين مسيحيين ومسيحيين، ناهيك عن ساحات التنازُع مع المسلمين والدروز والسوريين والفلسطينيين، وتلقّي آثار السياسة اللبنانيّة لإسرائيل إبّان غزوها وبُعيده. وليس من المستبعد أن يكون قياس هذا الدم كله، لا سيّما منه ذاك المسيحيّ، بمهمّة "إنقاذ" المسيحيين، سبباً لتأمّل داخليّ ووجدانيّ فاقمته تجربة السجن المديد اللاحق. ولمراجعاتٍ كهذه أن تزكّي، لا سيّما عند مؤمن، نوازع سلميّة أو نابذةً للعنف، تمهّد لها مزاعم جعجع الفلسفيّة والروحانيّة المتضخّمة، فيما تحوّلها مواقفه السياسيّة الملموسة واقعاً جدّيّاً.
فالتجربة القواتيّة، على عكس زميلتها اللدود، العونيّة، غنيّة في ما تعلّمه لمن شاء أن يتعلّم. وهي، في حال تنسيبها الى "حزب الكتائب"، تغرف من ماضٍ بدأ في 1936 قياساً بابتداء النضال العونيّ في 1989، ما دام أن التقليد الشمعونيّ - الإدّيّ ليس من النوع الذي يراكم خبراتٍ يستفيد منها شخص ثالث في ظرف ثانٍ. وفي الغضون تلك نشبت، في التاريخ الكتائبيّ المديد والتاريخ القوّاتيّ القصير نسبيّاً، معارك كثيرة متفاوتة الحجم، أولاها استقلال 1943 نفسه. وبافتراضه الجدّ الأعلى لـ"القوّات"، كان حزب بيار الجميّل قد اختار، مرتين في التاريخ الاستقلاليّ للبنان، الانحياز الى الطرح التوافُقي والمعتدل حين يلد الأفق طرحاً كهذا. فقد وقف، في الأربعينات، في صفّ بشارة الخوري، بعيداً من إميل إدّه، من دون أن يعاديه. وبالمعنى ذاته وقف، في الستينات، الموقف عينه من فؤاد شهاب، مشاركاً في حكوماته وإدارته، مع بُعد من كميل شمعون لا يشوبه عداء.
وهو ما نعود فنراه في سمير جعجع الذي نجح في تجديد تلك المواقف العتيقة حين قبل باتفاق الطائف الذي حاربه عون بضراوة، قبل أن يختار التحالف مع من صاروا حليفيه، السنّي سعد الحريري والدرزي وليد جنبلاط، فضلاً عن التعايش الهنيء مع قيادات "قرنة شهوان" المسيحيين. ولئن نمّ موقع "القوّات"، الضعيف نسبيّاً، في شراكة 14 آذار عن إقرار بتوازنات القوى الراهنة، غير أنه إذ يفعل هذا ينمّ عن إقرار بالتحوّلات، الديموغرافيّ منها وغير الديموغرافيّ، التي عصفت بلبنان وآثر عون ألاّ يراها.
والحال أن الجديد الذي يُحتمل صدوره عن جعجع ليس قليلاً ولا ضيّقاً. فقد خلّف الطلاق بين الكتائب وبشرّي تحديات لا تقلّ عما أنتجه زواجهما السابق. من ذلك أن تجربة الحرب وما تخللها من ترؤس الكتائبيّ أمين الجميّل الجمهوريّةَ، ردّا الحزب الى جماعاته المكوّنة حيث يلعب الأهليّ والمناطقيّ دوراً بارزاً. وهذا، بما فيه من نكوص عمّا أنزلته الحرب بالبُنى الحداثيّة، ربما ألحّ على أصحابه أن يستعيدوا بُعداً وطنيّاً فقدوه، من دونه لا يكون لهم دور سياسيّ على صعيد الوطن. لكنه ربما ألحّ، كذلك، على الاكتفاء بالتمدّد فوق سرير العائلة والمنطقة وتكريم القائد زوجتَه "القائدة"، ربما تيمّناً بمثال بيرونيّ من الأرجنتين، أو إحاطة نفسه بعدد من أبناء العائلة والمنطقة، جرياً على ما فعل عون، بعد "تشريف" المقاعد النيابيّة بوجوه تذكّر بالحرب وحواجزها وأسلابها. و"الحكيم"، إلى ذلك، مدعوٌّ للبرهنة على أن "سمير جعجع القديم مات في السجن"، بحسب ما قال هو بلسانه. وهو ما يعاكس، في حال العمل بموجبه، "الجنرال" الذي يشكّل الإصرار والمواظبة العمود الفقريّ لدعوته والتعليل الذي تستند إليه. فقائد "القوّات"، من ثم، قد يفاجئ بأكثر من جديد يظهر على دفعات وجرعات، بدل المفاجأة الضخمة، وربما الأخيرة، لـ"الجنرال" في "تفاهمـ"ـه مع "حزب الله".
وهناك الصلة بوسائل الإعلام التي تشدّ الى مكان أكثر تقدّماً. ففضلاً عن العلاقة الخاصّة بين "القوّات" ومحطة "إل بي سي" التلفزيونيّة، قد يؤمّن الاستقبال الإيجابيّ الذي وفّره لجعجع بعض كبريات الصحف نوعاً من شرعيّة يضفيها الرأي العام والمدينة على حركة ناقصة الشرعيّة. ولقاءٌ كهذا قد ينعكس سلباً على وسائل الإعلام، مُقوّياً ما هو ريفيّ فيها ومُضعفاً حدّة استجابتها للمصالح المدينيّة والتجاريّة، وربما الإعلانيّة استطراداًَ. غير أنه قد ينعكس إيجاباً على "القوّات" إذا ما نجح قائدها في رفع درجة تنبّهها وتنبّهه الى المصالح المذكورة، والى المدينة التي تحضنها ومَجاري صناعة الرأي العام وتقنيّات مخاطبته. وهنا تُستذكر، في المقابل، عصبيّة "الجنرال" حيال الصحافيين، وتركيزه وتركيز مُحازبيه على "إعادة تنظيم الإعلام" بصفته همّاً مُلحّاً، الشيء الذي لا يكتم شبهه بسوابق شهيرة في السياسات المتجهّمة ذات الشهيّة الاستبداديّة.
وعلى الضدّ من عون المناهض للسياسيين والساعي الى استتباعهم وإلحاقهم إلحاق ضابط لجنوده، أو الانقلاب عليهم، على عادة الضبّاط، يوحي جعجع أنه يريد أن يتعلّم السياسة. فعبرها يصير، هو العامل السابق عند بعض السياسيين يستخدمونه ويضحّون به تبعاً لأهوائهم، واحداً منهم. فإذا احتفظ في نفسه بمرارات المراحل السابقة، تسنّى له أن يتكشّف عن سياسيّ مجرّب ومُعانٍ يفوق المعدّل الوسطيّ الرائج والخفيف. وهو لا بدّ يعرف، كائنةً ما كانت الحال، أن تعلّم السياسة يتيح وحده طرد صيت بالغ البشاعة أورثته إياه الحرب والميليشيا، صيت لا تكفي لطرده صورة القدّيس الموصول بالسماء، ولا إيماءات جسمانيّة يُراد لها أن تهبط من غيب جديب.