ثلاثة خيارات إزاء ايران: المباركة أو المواجهة أو المقايضة
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
راغدة درغام
مهما أحرجت المواقف الايرانية الصين أو روسيا، لن تدخل هاتان الدولتان طرفاً في عمل عسكري ضد ايران بسبب طموحاتها النووية وذلك لاعتبارات نفطية واقتصادية ومصالح جغرافية - سياسية لموسكو وبكين. الخيارات "الجماعية" المتاحة تتمثل حالياً في العمل الديبلوماسي وقد تتطور لاحقاً الى الموافقة على عقوبات إذا رفضت ايران الامتثال للمطالب الدولية. لكن عندما يحين موعد استخدام القوة العسكرية، سيتفكك الاسلوب "الجماعي" وتضطر الولايات المتحدة وبريطانيا الى تبني "الانفرادية"، كما فعلتا في حرب العراق. الفارق الأبرز بين حرب العراق والعمل العسكري في ايران هو المبررات وما يترتب عليها من ردود فعل نحو الصين وروسيا وليس نحو بريطانيا والولايات المتحدة. العنصر المهم الآخر هو عنصر ردود الفعل في العالم الاسلامي الذي يدخل مرحلة مظلمة من الصراع الدموي بين السنة والشيعة في زمن العودة الى حروب الزعامة وطموحات الهيمنة. طهران تفرض الآن الأجندة الاقليمية على علاقاتها الثنائية مع الدول الكبرى وهي تتصرف بثقة من دخل في "نادي الذرة". وهذا يضع هذه الدول، وعلى رأسها الولايات المتحدة، أمام ثلاثة خيارات هي: إما الإقرار بعضوية ايران في "النادي" بصورة او بأخرى بنموذج الهند أو اسرائيل أو باكستان أو استخدام القوة العسكرية لتحطيم البنية التحتية النووية ولتقزيم الطموحات الايرانية بالهيمنة وفرض نموذج حكمها على جيرتها المباشرة والبعيدة، أو خيار المقايضة.
خيار المقايضة هذا يتطلب تفاوضاً اميركياً - ايرانياً مباشراً وجهاً لوجه. حالياً، لا يوجد مثل هذا التفاوض الذي يجب ان تطرح فيه كل القضايا على الطاولة. قد تكون هناك اتصالات وأفكار بينها التحدث عن العراق حصراً. ويجوز ان يكون هناك حوار سري يتم عبر قنوات أو مباشرة. انما لا مؤشر الى وجود تفاوض على شمولية الملفات المعنية بإيران والمنطقة.
ما يتطلبه هذا الخيار هو ان تضع الولايات المتحدة حكام ايران امام الأمر الواقع وان تنطلق من صدق حسن النية نحو ايران، ومن عزم واضح على عمل عسكري ضدها في حال الفشل في التوصل الى صفقة. لكن في البدء، يجب ان تكون هناك صيغة للكلام بين الطرفين إما مباشرة وبصورة ثنائية أو عبر الاسلوب "الجماعي" الذي يضم كبار النادي النووي الرسمي - وهم الدول الخمس دائمة العضوية في مجلس الأمن - الى جانب لاعبين آخرين في الجيرة الايرانية.
حديث المقايضة الجدي يتطلب تحولاً نوعياً في العلاقة الاميركية - الايرانية تنقلها من القطيعة الى التحالف. بمعنى، ان تقدم واشنطن الى طهران "ضمانات أمنية" على نسق تلك التي تقدمها الى اسرائيل أو تلك التي تقدمها الى باكستان مع تطمينات تتعدى التعهد بعدم غزو ايران أو ضربها عسكرياً وتجعل من طهران شريكاً اقتصادياً استثنائياً وعملاقاً في المنطقة.
المقابل في مثل هذه المقايضة هو تخلي ايران عن الطموحات النووية غير المدنية، والتوقف عن دعم الارهاب وحماية مرتكبيه من المحاسبة، وعدم التدخل في الدول الأخرى في المنطقة، والكف عن استخدام الميليشيات كذراع لنفوذها سواء في العراق أو في فلسطين ولبنان.
منطقياً، يُفترض ان تكون مثل هذه الصفقة مغرية لطهران، لكن المؤشرات تفيد بمنطق مخالف في زمن حكم الملالي من رجال الدين والثوريين. كذلك، لا يوجد أي مؤشر الى عقلانية أميركية، إذ ان رفض التعاطي مع ايران هو الذي يسيّر السياسة الأميركية في هذا المنعطف، بالإضافة الى ان قصر النظر في السياسة الاميركية المتخبطة نحو ايران يجعل واشنطن عاجزة عن استيعاب اشارات الى استعداد طهران للأخذ والعطاء في ملفات اقليمية. كما ان مراوغة ايران أفقدتها قدراً كبيراً من الثقة بنياتها خصوصاً بعدما أفرطت في "التحنك" الى حد أنها أصبحت هي نفسها ضحية لهذا الافراط.
لكل هذه الاسباب، يبدو خيار المقايضة مستبعداً، أقله في هذا المنعطف.
خيار الإقرار بعضوية ايران في "نادي الذرة" له شعبيته عربياً على رغم ان احد أهم أهداف ايران من امتلاك السلاح النووي هو الهيمنة على المنطقة العربية. والسبب وراء دعم بعض العرب لامتلاك ايران للقنبلة النووية هو امتلاك اسرائيل لها.
منطقياً، لو كانت الحكومة الاميركية مستعدة للتصرف من منطلق المصلحة الاميركية العليا حصراً لأعلنت معارضتها امتلاك اسرائيل السلاح النووي، شأنها شأن ايران ولتحركت فوراً نحو مؤتمر دولي يتخذ قرار تحويل منطقة الشرق الأوسط الى منطقة خالية من سلاح الدمار الشامل.
هذا الخيار يبدو غير متاح أو غير وارد في الحسابات الاميركية بسبب العلاقة العضوية مع اسرائيل، مما يؤجج بدوره الغضب العربي من ازدواجية الولايات المتحدة ويجعل البعض يصر على حق ايران في امتلاك الأسلحة النووية طالما ان اسرائيل تمتلكها.
آخرون في المنطقة العربية وغيرها يعتقدون بأن نجاح ايران في فرض انتمائها الى "نادي الذرة" سيفتح الباب أمام دول عربية للسير في الخطى ذاتها. وهؤلاء يقولون ان امتلاك القدرات النووية لا يتطلب بالضرورة علماء محليين وانما يتطلب الأموال الباهظة لشراء القدرات. ولذلك يصفق هؤلاء لايران ويتمنون لها النجاح ويأملون بقنبلة نووية عربية تمتلكها دولة ما لتعطيها مكانة الزعامة الاقليمية في وجه الزعامة الايرانية الاقليمية.
فالزعامة جزء مهم من الاعتبارات، كما الهيمنة، وكذلك التكبر والتعالي. لكن الدين أيضاً عنصر فاعل في عالم الذرة. وإذا كان من معارض شرس لامتلاك ايران القنبلة فإنه باكستان لاعتبارات كثيرة أهمها عنصر الشيعة في المعادلة الاسلامية. وهذا ما يحدث الآن في الفرز الجديد نحو امتلاك ايران السلاح النووي - انه عنصر الحرب البشعة بين السنة والشيعة والتي يشهد العالم مجرد عينة منها في العراق.
هذا العنصر سيكون له تأثير بالغ في كيفية التعاطي مع اصرار ايران على امتلاك القدرات النووية وان كانت تزعم أنها لأهداف مدنية وليست لأهداف عسكرية. وهذا عامل جديد إذ لم يسبق ان انقسم العالم الاسلامي في معارضته حرب العراق فيما هو الآن منقسم جذرياً إزاء العمل العسكري ضد ايران.
كلام القادة السياسيين يشير الى مجرد ناحية من الخلاف الجذري في شأن مكانة ايران الشيعية في العالم الاسلامي حيث الأكثرية سنية. الاسوأ هو حمام الدم المهرق في العالم الاسلامي، من العراق الى باكستان، في هذه الحرب البشعة.
وهذا لا بد ان ينعكس على كيفية التعاطي مع الطموحات الايرانية النووية والمواقف نحو الدول الكبرى المعنية بهذا الملف وخيارات التعامل معه.
حرب العراق سبقتها مبررات زئبقية راوحت بين اختراع علاقة لصدام حسين مع ارهاب 11 ايلول (سبتمبر) وبين امتلاك العراق اسلحة الدمار الشامل. ايران شأن أوضح إذ أنها هي التي تطرح نفسها طرفاً في النادي النووي وتتباهى بما توصلت اليه من انجازات نووية على رغم مزاعمها بأنها سلمية وغير عسكرية.
روسيا والصين، ومعهما المانيا وفرنسا احتلت الموقع المفضل في ذهن الرأي العام العالمي والاسلامي المعارض لحرب العراق حينذاك. ففي ذلك الحين تصرفت الإدارة الاميركية بانفرادية وتجاهلت المعارضة الدولية ومجلس الأمن وسارت الى حرب بائسة اخترعت لها المبررات ولم تهيئ لإفرازاتها. ايران قصة مختلفة خصوصاً ان الادارة الاميركية تستثمر كلياً، في هذا المنعطف، في الخيار "الجماعي" وتتكل على الشركاء الاوروبيين كما على روسيا والصين لايجاد الحلول الديبلوماسية السلمية القائمة على التفاوض.
لذلك، فإن روسيا والصين لن تحصدا تلك الشعبية التي حصدتاها في مسألة العراق اذا استمرتا في حماية ايران بلا محاسبة واستحقاق. فهما تحت المجهر اقليمياً ودولياً.
أما في ما يخص الرأي العام الاميركي، فإن المؤشرات والاستطلاعات تفيد بأنه بموازاة الرغبة في إنهاء الدور الاميركي في حرب العراق والرغبة في اعادة القوات الاميركية الى البيت الأميركي، هناك قدر كبير من الدعم لعمل عسكري يوقف الطموحات الايرانية النووية. وهذا حقاً أمر ملفت ومؤشر الى رفض الرأي العام لتقبل خيار مباركة امتلاك ايران السلاح النووي واستعداده لكلفة الخيار العسكري ضد ايران حتى وهو محبط نتيجة استخدام الخيار العسكري ضد العراق.
هناك اختلاف في الآراء حول كيفية التصدي عسكرياً لايران ومتطلباته. إنما هناك ازدياد في الوعي بأن معارضة حرب العراق لا تعني المعارضة التلقائية لعمل عسكري في ايران. فالأمران مختلفان كلياً في ذهن الاكثرية بغض النظر عن أقلية تصر على ان ضرب ايران وسورية هو جزء من "مؤامرة" أميركية بدأت بحرب العراق.
الأهم ان هناك نمواً في الفكر الاميركي نحو متطلبات العمل العسكري في ايران. فأي قرار بعمل اميركي انفرادي يخرج عن الاجماع الديبلوماسي سيتطلب الانسحاب الفوري للقوات الاميركية من العراق. وهذا ما بدأت الأوساط الاميركية مضغه والتحدث عنه بصورة علنية.
الاعتبارات الانتخابية قد تقيد الادارة الاميركية وتزيد من عنادها على عدم الانسحاب من العراق تقهقراً لأن ذلك يؤذي الصورة الاميركية. انما لا خيار أمام الإدارة الاميركية إذا وضعت حقاً المصلحة الوطنية فوق الاعتبارات الحزبية والانتخابية، سوى ان تقرر الانسحاب الفوري من العراق واعادة نشر القوات الاميركية في القواعد في المنطقة وعلى متن السفن العسكرية في البحار لإبلاغ ايران بجدية العزم الاميركي على مواجهتها عسكرياً في اعقاب فشل جزرة الديبلوماسية.
فإلى جانب فهم طهران لجدية العزم الاميركي والى جانب سحب القوات الاميركية من خندق مكشوف للانتقام الايراني، ان بين أهم افرازات الانسحاب الاميركي الفوري من العراق هو الكف عن تأدية الخدمات الاميركية لايران في العراق، إذ قامت القوات الاميركية بتأمين القرى والمدن ثم تقديمها آمنة لايران، مما عزز النفوذ الايراني في العراق بلا كلفة باهظة. ثم ان الوجود الاميركي العسكري في العراق في هذه المرحلة محط جدل جذري، فليس واضحاً إذا كان جزءاً من المرض أو جزءاً من العلاج. والأجدى الآن التنبه والاستعداد للخطر الآتي من ايران بدلاً من الانصباب على التظاهر بتصحيح الأخطاء الفادحة التي ارتكبت في العراق.
هذا إذا كان وقع الخيار على العلاج العسكري للمسألة الايرانية. ومثل هذا الخيار ليس قراراً اميركياً صرفاً وانما هو قرار ايراني بالقدر ذاته. وهذا بدوره فارق كبير بين ما حدث في العراق وما يحدث مع ايران.
خيارات المباركة أو المواجهة أو المقايضة قد تكون عائدة الى مدى تمادي ايران بقيادة الرئيس محمود أحمدي نجاد في "التحنك" ومدى استعادة المؤسسة الدينية القدرة على ممارسة فن الحنكة الايرانية المعهودة. لكن الأمور تعدت هذه الاعتبارات. فقد دخلت الولايات المتحدة وايران عتبة جديدة من التحديات الثنائية والاقليمية في علاقاتهما بتقاطع فائق الأهمية مع علاقات كل منهما الثنائية مع الصين وروسيا.