بورقيبة والدولة: العلمانية في تونس
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
السبت: 2006.05.06
توفيق المديني
لم يكن بورقيبة كما صور نفسه على امتداد ثلاثة عقود من الحكم، وكما صوره أنصاره بالأمس، وعدد مهم من خصومه اليوم والذين كانوا في حرب ضروس معه في السابق، لم يكن سياسياً عادياً بل جمع بين بعد النظر السياسي وبين الإصلاح. وتجسد ذلك في ثلاث أبعاد:
البعد الأول: اعتقاده أنه صاحب مشروع إصلاحي شامل لتونس.
البعد الثاني: امتلاكه رؤية جديدة في السياسة العربية تقوم على الواقعية والعقلانية، وتبتعد عن العواطف والديماغوجية، وهي الرؤية التي انتهجها حين اقترح حلاً للقضية الفلسطينية في خطاي ريحا ا لشهير 1965، والتي صاغ بمقتضاها علاقات تونس مع شسائر الدول العربية.
البعد الثالث: يتمثل في اعتقاد بورقيبة والعديد من منظري السياسة البورقيبية أنه يمتلك رؤية ثاقبة في السياسة الدولية جعلته يحسب التموقع بين موازين القوى الدولية. في كتابه الجديد ا لذي يحمل العنوان التالي: بورقيبة والإسلام، والمتكون من ثلاثة أبواب الأول: بورقيبة والعلمانية، ثلاثة فصول، الثاني، معارك فصلاح: أربعة فصول، الثالث: التأويل البورقيبي للإسلام، يركز الكاتب والصحافي لطفي حجي على معالجة بورقيبة للقضايا الإسلامية.
إن عناصر قوة بورقيبة تكمن في خوضه المعارك التي لم يجرؤ على خوضها سياسيون من قبله ومن بعده، فتجرأ على ما كان يعتقد أنه من ثوابت الفكر الإسلامي التي لا يمكن أن يتسرب اليها شك أو نقد، فلا سلم من سلاحه النقدي ومنهجه الإصلاحي لا القضاء ولا المرأة ولا التعليم ولا العبادات. وجميع هذه القضايا الإسلامية التي عالجها بورقيبة منذ ما يناهز النصف قرن لا تزال الى اليوم محل نقاش في الدول الاسلامية التي تسعى الى التوفيق بين الواقع المتفجر والنصوص الدينية التي تحكم تفكير أهلها. كما أن القضايا التي عالجها أصبحت محور نقاش عالمي بعد أحداث الحادي عشر من أيلول.
ليس من شك أن النخبة السياسية ـ الإدارية المسيطرة على مجموع الدولة ـ الحزب الواحد بقيادة الحبيب بورقيبة، لم تكن نخبة ثورية بالمعنى الدقيق للكلمة، ولكنها هي طليعة من المثقفين ـ الذين تعلموا في الجامعات الفرنسية، وتشبعوا بثقافة الغرب البرجوازية ـ وتتسم في طابعها العام بالثورية البرجوازية ضمن الأفق العلماني، بسبب اعتناقها العلمانية البرجوازية الفرنسية، وتأثر بورقيبه نفسه بكمال اتاتورك بوجه خاص. وهو الأمر الذي جعلها تجسد في مشروعها الوصائي على المجتمع المدني نوعاً من العقلانية، هي عقلانية "ثورة من الأعلى" التي تخدم البناء القومي الايديولوجي والسياسي للنظام الجديد، وتدعيم طابع الكلية الدولية. كنفي سلبي لدور الشعب. "لقد طغت الدولة على المجموع الاجتماعي باسم عقلانية مشروعها. وبذلك أصبحت العلمانية في نطاق الممارسة السياسية للنخبة السياسية ـ الإدارية الوطنية إحدى مكونات الايديولوجيا القومية الكلية. وتجسد بالدرجة الرئيسية في العلمنة الراديكالية للتعليم بجميع أصنافه ومستوياته من الابتدائي، مروراً بالاعدادي والثانوي، وصولاً الى الجامعي. فالدولة التونسية الجديدة التي أطلقت مشروعها العلماني الواسع جداً في مجتمع عربي اسلامي يهيمن عليه التأخر التاريخي، الهادف الى إصلاح التعليم، كان يشقها مجتمع عربي اسلامي يهمن عليه التأخر التاريخي، الهادف الى إصلاح التعليم، كان يشقها تناقض منذ عهد الاستقلال، يتمثل في هيمنة الطابع الخارجي لهذه الدولة بالنسبة للمجتمع، الموروث من عهد الدولة الكولونيالية على رغم من وجود سلطة جديدة تتمتع بـ "شرعية تاريخية" وبقاعدة من المساندات حيث أن هذا ا لطابع الخارجي للدولة المهيمن على المجموع الاجتماعي باسم علمانية مشروعه التحديثي الهادف الى أحداث تغيرات سياسية واقتصادية وثقافية في بنية المجتمع التونسي، كان في حد ذاته نقضاً للفضاء العام، ا لذي يمثل المسرح الحقيقي للمواطنة بحصر ا لمعنى، المنقسم الى فروع ثنائية الفرد ـ المواطن، المصالح الخاصة ـ المصالح العامة، المجتمع المدني ـ الدولة هذا من جهة.
وهكذا صفى بورقيبة البنية التحتية الاقتصادية للمؤسسة الاسلامية التقليدية من خلال الغاء مؤسسة الحبس والأوقاف: "قراري 31 أيار 1956، و18 تموز 1957، واتخذ قرارات غاية في الجذرية مثل إعلان مجلة الأحوال الشخصية للمرأة في 13 آب 1956، التي تنظم مسائل الزواج وتحد من تعدد الزوجات التي تدخل في نطاق تحرير المرأة التونسية، وكسب ولائها سياسياً، باعتبار ان سن هذه القوانين التشريعية الجديدة كما يقول بورقيبة كان تعبيراً "عن ضرورة التكيف مع متطلبات الحياة المعاصرة، وتسيير شؤون الحياة، وفق المنطق الجديد الذي لا يعد منطقاً متناقضاً مع روح الاسلام "ووحد القضاء على أساس القوانين الوضعية، وألغى المؤسسة القضائية التقليدية التي تعكس البنية التحتية المتأخرة تاريخياً، وتجسد المحتوى الثقافي والايديولوجي التقليدي، فضلاً عن أنها مصدر للتفتت والاختلاف بسبب تعداد مذاهب التأويل في داخلها، وقام بنشر النموذج التحديثي للنخبة السياسية ـ الإدارية الحاكمة التي تحكمه الرؤية الإصلاحية الراديكالية للفئات الوسطى، بما جعل الأهمية الاجتماعية والسياسية والثقافية للإسلام شيئاً نسبياً في منظور علماني.
وفي سياق هذه "الجذرية البرجوازية" من الإجراءات والقرارات التي اتخذها بورقيبة في إطار تدعيم المؤسسات الفوقية للدولة الجديدة، قام هذا الأخير بإصلاح جذري للمؤسسة التعليمية الزيتونية حسب قانون 26 آذار 1956، وكانت النخبة السياسة ـ الادارية الجديدة تركز في خطابها السياسي والايديولوجي على أهمية تحديث التعليم، والاستغناء عن مؤسسة الجامعة الزيتونية باعتباغرها "مؤسسة تقليدية لا تعطي إلا تعليماً تقليدياً يتركز أساساً على الدين"، وتحويل الجامعة الدينية الزيتونية العميقة الجذور في تاريخ المجتمع التونسي والمغاربي الى مجرد كلية للشريعة وأصول الدين من الطراز الحديث خاضعة في مناهجها وبرامجها وبيداغوجيتها لخط سلطة الدولة التحديثي، بهدف إقصائها عن المشاركة السياسية والثقافية، باعتبار أن النخبة التقليدية المثقفة ذات التنشئة الزيتونية (دينية) تفصلها هوة تاريخية عميقة عن التكوين الثقافي والايديولوجي البرجوازي، أو التعليم الحديث، فضلاً عن عجزها لتقديم مشروع لبناء مجتمع بديل، للمجتمع ا لتقليدي المسكون بالتخلف الشديد، والفقر، والتبعية، وتقديم كادرات كفوءة، تلبي حاجيات بناء الدولة العصرية، وتحقيق التنمية في مختلف المجالات الاقتصادية والاجتماعية، والتعليمية والتربوية.إن الصراع بين السياسي والديني يعود في الواقع، الى ثنائية تزداد متطلباتها ثقلاً بين الدستوريين والزيتونيين منذ مرحلة الاستعمار، وهو يعكس صراعاً أيديولوجياً وسياسياً بين الحزب الدستوري الجديد بقيادة بورقيبة الذي اضطلع بدور قيادي للحركة الوطنية التونسية في مقاومة الاستعمار الغربي، وانتزع الاستقلال، وقام ببناء دولة عصرية، وكان له خطاباً سياسياً ينسجم أكثر فأكثر مع متطلبات التطور، لمختلف قطاعات المجتمع التونسي، وبين الحزب الدستوري القديم بقيادة الثعالبي الذي كانت تسانده المؤسسة الدينية التقليدية، المتحالفة تاريخياً مع البرجوازية التجارية التقليدية، بحكم التجانس في الانتماء الى الفضاء الأيديولوجي التقليدي. ومن المعلوم تاريخياً أن الحركة السياسية التونسية، لم تكن حركة تحرر سياسي فقط، بل كانت تمتلك برنامجاً خاصاً للعمل في المجالين الثقافي والاجتماعي مستندة في ذلك الى تراث الحركة الإصلاحية التحديثية في تونس منذ عهد خير الدين التونسي، ورائد تحرير المرأة العربية التونسية الطاهر الحداد/الذي جوبه بعداء شديد من جانب المؤسسة الزيتونية التقليدية، والفئات الاجتماعية المحافظة، والقيم والمبادئ المتخلفة في المجتمع التقليدي.
الكتاب: بورقيبة والإسلام ـ الزعامة والإمامة
الكاتب: لطفي حجي
الناشر: دار ا لجنوب للنشر ـ تونس
التعليقات
لمسة
سليم المسلم -نحن في حاجة الى علمانية جزئية لا تمس التشريع قال رسول الله *انتم اعلم بشؤون دنياكم*