جريدة الجرائد

كنتُ هناك... يوم كشف حكمتيار عن وجهه!

قراؤنا من مستخدمي إنستجرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك

الثلاثاء: 2006.05.09

جمال خاشقجي

في منتصف أبريل 1992 أمضيت أسبوعاً أو أكثر في قرية "سورخاب" الصغيرة على مشارف العاصمة الأفغانية كابول، والتي اتخذها الزعيم الأفغاني قلب الدين حكمتيار قاعدة له، لعله يثب منها إلى جائزته الكبرى ليكون فاتح كابول العظيم ومجدد الإسلام فيها. ولكن فاتحاً آخر سبقه إليها هو مجاهد لا يقل عنه فضلاً أو أسبقية جهاد هو أحمد شاه مسعود، ولكن الدنيا لم تكن تقبل بالقسمة على اثنين عند حكمتيار وقتها.

كانت أياماً قليلة ولكن كافية لأن تكون رواية أو مسرحية، لقد كانت عملاً درامياً كاملاً، عشت فيه الانتصار والهزيمة، الفرح والحزن، التواضع والكبرياء، الصدق والكذب، رأيت هناك الحقائق كيف تتلوَّن والحق كيف يتعدد. كما رأيت فيها صاروخ "ستنجر" الشهير لأول مرة وهو يستخدم أيضاً، ولأول مرة، في صراع بين المجاهدين أنفسهم، بعدما كان له الفضل بعد الله ثم جهد الأفغان وجهادهم، في هزيمة الجيش السوفييتي في أفغانستان.

أيام "سورخاب" التي لا تهم أحداً شكلت منعطفاً في التاريخ الإنساني، فلولا ما حصل خلالها لما خسر المجاهدون الأفغان جهاد أكثر من عقد كامل، وتضحيات شعب بأكمله، ونحو مليون ونصف مليون شهيد من أجل تحرير بلدهم ونصرة دينهم، فانهار مشروعهم وحلمهم في بناء الدولة الإسلامية العادلة. وورث أرضهم وجهدهم قوم آخرون، هم "طالبان" وحلفاؤها، وبقية القصة معروفة ولا نزال نعيش تداعياتها.

لقد سجل الصديق ورجل الأعمال عادل بترجي الذي رافقته إلى "سورخاب" مع أخ سعودي ثالث ممن انشغل معنا بالجهاد الأفغاني في ذلك الزمن الجميل، ما حصل هناك في كتاب شيق سماه "الفتح والهزيمة- أخطر 14 يوماً في تاريخ أفغانستان"، وكان "أبو سلافة" وقتها رئيساً لواحدة من جمعيات الإغاثة النشطة في أفغانستان، وكنت أعمل معه فيها بالإضافة إلى عملي الصحفي. وأنصح شباب الصحوة "الجدد" الذين يتلمسون خطاهم ووعيهم السياسي باستحضار التجربة الأفغانية وشخوصها، وأنصح المسارعين في إصدار صكوك الرضا أو الرفض على الأشخاص والمواقف، أن يقرؤوا هذا الكتاب فهو شهادة عيان صادقة. وأتمنى على الأستاذ عادل أن يعيد طباعته، ويضيف عليه ما استجد وانكشف من حقائق، ويكتب غيره فهو قد شهد ما لم يشهدوه، بل حتى ما لم يشهده الكثيرون ممن عاشوا التجربة الأفغانية.

رأيت البطل الجديد لمتطرفي هذا الزمن قلب الدين حكمتيار، والحق أنه كان بطل جيلنا أيضاً، وإن نجونا بلطف الله من لوثة الغلو والتطرف، ولكن غلبنا الإعجاب بحكمتيار وحزمه وقوته، حتى استبنّا الحقيقة عندما رأينا صواريخه تأكل كابول، وإصراره على مقاتلة إخوانه، وشهدنا تقلبه في التحالفات كل شهر أو شهرين، وإخلاله بالوعود والاتفاقيات، حتى انتهى لاجئاً في طهران. رأيته في "سورخاب" في عزه، مغتراً بقوته، معرضاً عن نصح إخوانه، بل حتى عن نصح شيوخ الحركة الإسلامية الذين اجتمعوا في بيشاور يبحثون عن حل يجنب المجاهدين الحرب وقد اجتمعت قواتهم حول كابول حيث بدأ النظام الشيوعي في التصدع بعدما صمد في وجه ضربات المجاهدين ثلاثة أعوام طوالٍ إثر انسحاب القوات السوفييتية، ولكنه لم يستطع الصمود إلا أشهراً قليلة بعد انهيار الاتحاد السوفييتي نفسه.

استمعت إلى الشهيد أحمد شاه مسعود يرجوه بكل تواضع أن يعود إلى بيشاور، وينسق مع بقية قادة الأحزاب الجهادية كي يدخلوا كابول بحكومة متفق عليها، وبدون قتال. كان يقول له إن كابول سقطت وإنها لا تفتح مرتين، وإن الشيوعيين قبلوا بتسليم الحكم لحكومة جهادية وإنه لا يريد شيئاً لنفسه، وإن المرحلة للسياسة وليست للحرب. ولكنَّ حكمتيار أبى بإصرار وعناد، إنه يريد أن يدخل كابول "بعزة المسلم، رافعاً سلاحه وراياته الخضر، مصفياً الحكم الشيوعي لا متفقاً معه". كانت حجته بليغة، ذلك أننا جميعاً اقتنعنا بها، فلم يجرؤ واحد منا على أن يقول له مثلما قال مسعود. ولم يتذكر أي منا أن السُّنة تقول بتجنب لقاء العدو طالما أن الهدف المراد يمكن أن يتحقق دون قتال. فسكتنا وحلمنا معه أن سندخل كابول بعد يوم أو يومين فاتحين والرايات الخضر ترفرف فوق سيارتنا "الباجيرو".

كنت بجواره في اليوم التالي أستمع إلى محادثة لاسلكية بينه وبين الأستاذ محمد قطب يناشده ألا يقدِم على عمل منفرد، ويحاول أن يقنعه بقبول تشكيلة الحكومة المؤقتة التي ستتسلم الحكم في كابول. والحق أن الشيخ محمد قطب كان قاسياً وحازماً مع حكمتيار، ولعله كان بعد الشيخ عبدالله عزام أول من واجهه واختصر مشكلته عندما قال له "لا يمكن أن تكون وحدك على صواب بينما الجميع هنا على خطأ مهما كنت صادقاً أو بعيد النظر أو صافي النفس". ولم يكن حكمتيار أياً من هذه الصفات، بل رد عليه يطمئنه بأن المجاهدين لن يقتتلوا. بينما كانت قواته تستعد لاقتحام كابول رغم علمه بأن مسعود ومجاهديه قد سبقوه إليها. أعترف بأنني شاركت في الكذب والخداع فاقترحت عليه أن يطلب من الأستاذ محمد قطب أن يتشاور مع من معه من الوسطاء العرب الذين امتلأت بهم بيشاور لبلورة مبادرة جديدة ثم يتصلوا بحكمتيار لاحقاً. أعجبه الاقتراح فنقله للشيخ كسباً للوقت ريثما تصنع قواته في كابول في اليوم التالي كما هو مخطط واقعاً جديداً يفرضه على الجميع .

قبل نهاية المخابرة اللاسلكية تحدث أسامة بن لادن الذي كان في بيشاور مع غيره من الوسطاء العرب وعبَّر له عن خشيته من حتمية الصِّدام بين المجاهدين لو دخلوا كابول من جهاتها الأربع. في ذلك الوقت كان أسامة لا يزال متسقاً مع الموقف الفقهي الأصولي بحرمة قتل المسلم لأخيه المسلم. طمأنه حكمتيار بأنه لن يحصل اشتباك بين المجاهدين، وأنهي المكالمة، وبينما كان يمضي بعيداً عن جهاز الاتصال كان صوت أسامة يناديه "أنجنير ساب هل تسمعني"، سمعه حكمتيار ولكنه لم يلتفت ومضى في طريقه. حمل الميكروفون أحد مساعدي حكمتيار ورد قائلا: "المهندس ذهب يا أخي"، ولعل ذلك كان آخر حديث بين الرجلين، حتى دار الزمن وجمعهما من جديد. في اليوم التالي فتحت نافذة من جهنم في كابول.

هذا هو حكمتيار الذي احتفى أنصار "القاعدة" الأسبوع الماضي ببيعته لزعيمهم بن لادن، وحري بهم أن يحتفلوا فرجل معتد بنفسه، مؤمن بزعامته، يبايع غيره ويرضى به قائداً وموجهاً خاصة وهو عربي أجنبي غريب عن أفغانستان مثل أسامة بن لادن، والذي كان يوماً ما يحتاج إلى ورقة مختومة من "المهندس" كي يضمن سلامة تنقله في مناطق نفوذه في زمن الجهاد. إنه لأمر جلل ومهم في تاريخ وتطور حركة "الرفض والغضب" الإسلامي إذا ما صحَّ التعبير، وهو ما قد يستدعي مقالاً آخر أيضاً.

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف