جريدة الجرائد

بول بوت... وما يجمع طغاة القرن العشرين

قراؤنا من مستخدمي تويتر
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك

الجمعة: 2006.05.12

ما الذي يستدعي التعرض مجدداً لسيرة الطغاة سفاحي الشعوب من أمثال الديكتاتور الكمبودي بول بوت والتشيلي أوغستو بينوشيه وغيرهما؟ الإجابة هي أن سيَر هؤلاء الأفراد لا تدرس وتستعرض من زاويتها التاريخية والسياسية فحسب, وإنما لوجود مكونات وعناصر أساسية فيها, تربطها قواسم مشتركة مع سير قادة آخرين منتشرين في شتى بقاع الأرض. وكما نتابع فإن في الاتهامات المثارة الآن في وجه الرئيس العراقي السابق صدام حسين, أمام المحكمة الخاصة التي تنظر في تلك الاتهامات, وجوه شبه كثيرة يشترك فيها طغاة الأرض جميعاً. ففي أبريل عام 1975, وإثر خمس سنوات من القتال الذي خاضته حركة "الخمير الحمر" الكمبودية, تمكنت أخيراً من احتلال العاصمة بنوم بنه, وعمدت إلى إخلاء المدن والضواحي من سكانها ومواطنيها. وبالنتيجة لقي ما يزيد على المليون ونصف المليون مواطن حتفهم, خلال مدة حكم الطاغية "بول بوت" القصيرة, إثر تمكن الاجتياح الفيتنامي الذي تعرضت له كمبوديا في ديسمبر 1978 من طرد "الخمير الحمر" من كافة المدن, لتبدأ مرحلة عشر سنوات من الاحتلال الأجنبي, مما أدى إلى اندلاع حرب أهلية استمرت لما يقارب ثلاثة عشر عاماً.
يذكر أن "بول بوت" كان ناشطاً في حركة مقاومة الاحتلال الفرنسي بقيادة هوشي منه, وأنه عمل مدرساً خلال الفترة الممتدة بين عامي 1949 و1953, ثم ترك مهنة التدريس ليتولى قيادة عصابات "الخمير الحمر" التي تمكنت من إلحاق الهزيمة بالحكومة العسكرية القائمة حينئذ, بقيادة نورودوم سيهانوك, وليصبح رئيساً لوزراء حكومة الخمير الحمر. واستطاع "بول بوت" أن ينشئ نظام حكم شمولي دموي فظ, راح ضحيته ذلك العدد المهول من المواطنين على نحو ما سبقت الإشارة إليه, إما قتلاً مباشرة أو تجويعاً متعمداً ومقصوداً. وبحلول عام 1979 جرت الإطاحة بذلك النظام الوحشي البغيض, وفر "بول بوت" مجدداً إلى الريف والأدغال أمام الغزو الفيتنامي, حيث واصل قيادته لحرب العصابات التي شنتها حركة "الخمير الحمر", حتى لحظة وفاته في عام 1998. ولعل أكثر ما يثير الغرابة والعجب في سيرة "بول بوت", أنه شب هادئاً وديعاً مسالماً في صباه, إلا أنه سرعان ما تحول إلى أحد أشهر سفاحي الأرض وطغاتها في القرن الماضي, منذ لحظة دخوله حلبة السياسة وحرب العصابات الدموية التي خاضها مع حركة الخمير الحمر المتطرفة. وليس ذلك فحسب, بل لقد صعد "بول بوت" إلى سدة الحكم في بلاده, وهو متشبع بالأفكار الثورية الخيالية الطوباية الحالمة التي كانت تمني المواطنين بقدوم الخير والرفاهية والتقدم والازدهار! فكيف يمكن حل هذا اللغز وفهم التحول الغريب الذي طرأ على مسار "بول بوت" وشخصيته؟ للإجابة على هذا السؤال, اقتطع مؤلف الكتاب أربع سنوات من عمره كرسها لدراسة شخصية وسيرة "بول بوت", منذ لحظة ميلاده وحتى وفاته. واستطاع خلال السنوات الأربع هذه, السفر متجولاً عبر كمبوديا طولاً وعرضاً, حيث أجرى لقاءات عديدة مع بعض الأحياء من قادة الخمير الحمر, الذين لم يسبق لهم الإدلاء مطلقاً بأي حديث صحفي, بما في هؤلاء, صهر "بول بوت" ورئيس حكومة الخمير الحمر سابقاً. وعلاوة على ذلك عكف المؤلف على تصفح ودراسة الوثائق المتوفرة في كل من الأرشيفات الصينية والروسية والفيتنامية والكمبودية, حرصاً منه على معرفة كنه شخصية ذلك القائد الدموي, وأمته التي قادها إلى موارد الهلاك والدمار.
ولهذا السبب فإن الكتاب هو أكثر من مجرد دراسة للسيرة الذاتية لبول بوت, وذلك لتوفره على مادة في غاية الأهمية عن التاريخ السياسي لكمبوديا خلال نصف قرن الماضي. وقد تمكن مؤلفه فيليب شورت -وهو مراسل صحفي لهيئة الإذاعة البريطانية لمدة 25 عاماً- من رصد تفاصيل ومعلومات جد مذهلة عن نظام "بول بولت" وسيرته الذاتية, إلى جانب عمق التحليل الذي حواه الكتاب. وفي حين تكشف للعالم كله هول وفظائع حملة الموت والإعدامات والقتل جوعاً ومرضاً, التي قادها نظام "بول بوت", فإن أسباب ودوافع تلك الحملة ظلت مجهولة للكثيرين. وفي سبيل الكشف عن خلفياتها وماهيتها, فقد أعطى الكاتب اهتماماً لدراسة تاريخ كمبوديا في العصور الوسيطة, علاوة على تأمله لتأثيرات بوذية "ثيرفادا" على مسيرة العنف الدموي الذي عرفت به في الماضي, مصحوبة بردة الفعل الوطنية إزاء التدخلات والاحتلال الأجنبي الذي تعرضت له كمبوديا أكثر من مرة في تاريخها المعاصر القريب. وضمن تلك التدخلات أشار الكاتب إلى الدور الأميركي في تكريس نظام "بول بوت" الدموي, وما قدمته له واشنطن من دعم كبير, حرصاً منها على بقائه مخلباً تستخدمه ضد ما تسميه بالخطر الشيوعي على المنطقة, متمثلاً في كل من الاتحاد السوفييتي السابق وفيتنام الشمالية.
وفوق اهتمامه بدراسة التاريخ السياسي المعاصر لذلك البلد, فقد أولى الكاتب اهتماماً ملحوظاً لجانب آخر على قدر كبير من الأهمية, ألا وهو التأثير السالب للأنظمة الديكتاتورية الشمولية على ثقافة الشعوب وحضارتها. فأهم ما فعله اجتياح "الخمير الحمر" للمدن الكمبودية, تخريبها وتدميرها ونسف معالم حضارتها وثقافتها العريقة, مع استبدال القيم الثقافية السائدة, بأخرى مترعة برموز القتل والعنف وتخريب الوجدان الشعبي. وليس أدل على ذلك من إشاعة نظام "بول بوت" لثقافة جديدة قائمة على آيديولوجيا معادية للمدنية والحضارة من حيث المبدأ والأصل!

عبد الجبار عبد الله
الكتاب: بول بوت وتشريح كابوس الرعب
تأليف: فيليب شورت
الناشر: دار جون ماك راي للكتب
تاريخ النشر: يناير 2006

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف