هل كان النبي يعرف القراءة والكتابة؟
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
الثلاثاء: 2006.05.16
د. محمد عابد الجابري
بعد التدقيق في مضمون كلمة "أمي" كما وردت في القرآن، وبعد أن تأكد لدينا أن معنى هذا اللفظ لا يفيد - بالضرورة- أنه صلى الله عليه وسلم لم يكن يعرف القراءة والكتابة (المقال السابق)، يبقى علينا البحث عن الشهادات التي يمكن أن تفصل في هذا الأمر، أعني الشهادات التي من شأنها أن تثبت أنه صلى الله عليه وسلم كان فعلاً يقرأ ويكتب؟
لعل أول ما تجب الإشارة إليه في هذا الشأن أن الكتابة كانت منتشرة في مكة زمن النبي صلى الله عليه وسلم وقبله. تشهد لذلك تلك اللائحة الطويلة من أسماء الصحابة الذين كتبوا للنبي، وفي مقدمتهم أبو بكر وعمر وعلي وعثمان. أضف إلى ذلك أن بعض الروايات تشير إلى أنهم كانوا يقرؤون التوراة أيضاً. ففي حديث رواه "مالك عن عمر رضي الله عنه أنه قال: رآني رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا أمسك مصحفاً قد تشرَّمت حواشيه، فقال: ما هذا؟ قلت: جزء من التوراة. فغضب وقال: والله لو كان موسى حياً ما وسعه إلا اتباعي". هذا من جهة، ومن جهة أخرى ذكر ابن إسحاق في قصة إسلام عمر بن الخطاب أن هذا الأخير ذهب إلى بيت أخته غاضباً عندما قيل له إنها أسلمت، فدخل عليها في بيتها فوجدها مع ختنه وابن عمه سعيد بن زيد بن عمرو، وعندهما خباب بن الأرت معه صحيفة فيها سورة (طه) يُقرِئهما إياها، فلما سمعوا حس عمر، تغيب خباب في مخدع لهم، أو في بعض البيت، وأخذت فاطمة بنت الخطاب الصحيفة فجعلتها تحت فخذها. وقد سمع عمر حين دنا إلى البيت قراءة خباب عليهما". وبعد مشاجرة طلب عمر الصحيفة وقرأ صدراً من سورة "طه"، فهدأ ثم قال: "ما أحسن هذا الكلام وأكرمه"! وكان ذلك سبب إسلامه.
ليس هذا وحسب، بل تؤكد مصادرنا أن قصياً بن كلاب الجد الأعلى للنبي عليه الصلاة والسلام كان يعرف القراءة والكتابة، وأن جده المباشر عبدالمطلب بن هشام كان يقرأ ويكتب. وفي خبر آخر لابن إسحاق أن عبدالمطلب كان قد نذر إن وُلد له عشرة أولاد "ثم بلغوا معه حتى يمنعوه، لينحرنَّ أحدهم عند الكعبة، فلما توافى بنوه عشرة، وعرف أنهم سيمنعونه، جمعهم ثم أخبرهم بنذره، ودعاهم إلى الوفاء للّه بذلك، فأطاعوه وقالوا: كيف نصنع؟ قال: ليأخذ كل واحد منكم قدحاً ثم يكتب فيه اسمه، ثم ائتوني، ففعلوا". إن ذلك يعني أن عبدالمطلب جد النبي صلى الله عليه وسلم وأولاده العشرة، بما فيهم عبدالله والد النبي، كانوا يعرفون القراءة والكتابة.
وإذا أضفنا إلى ذلك كله أن النبي كان قبل البعثة يتردد على الشام في تجارة لخديجة، التي تزوجته بسبب ما لمسته من أخلاقه وكفاءته، وأنه من غير المتوقع أن يكون جاهلاً بالكتابة والحساب وهو يقوم بمهام التجارة -بينما كان أقرانه ممن هم أقل شأناً منه يعرفون ذلك- أدركنا كم هي راجحة الآراء التي قالت بأن النبي كان يعرف الكتابة والقراءة. وهذا في نظرنا لا ينال شيئاً من كونه كان نبياً رسولاً. فليس من شرط النبوة عدم المعرفة بالكتابة والقراءة. فالنبوة قائمة على الوحي، وليس على قراءة الكتب، كتب الدين أو غيرها.
على أن المسألة ليست مجرد استدلال، فهناك روايات وأخبار نقلت عن الصحابة تفيد -وبعضها يؤكد- أن النبي صلى الله عليه وسلم كتب وقرأ بهذه المناسبة أو تلك. وفي مقدمة تلك الأخبار ما روي بصدد صحيفة الحديبية. ففي الحديث المعروف بـ"حديث البراء" الذي رواه مسلم في صحيحه بصدد صلح الحديبية، نقرأ أن النبي كلف علياً بن أبي طالب بكتابة عقد الصلح مع قريش، فقال له: "اكتب الشرط بيننا: بسم الله الرحمن الرحيم، هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله". فاعترض ممثل قريش قائلا: "لو نعلم أنك رسول الله تابعناك، ولكن اكتب محمد بن عبدالله". ويقول الراوي: "فأمر (النبي) علياً أن يَمْحَاهَا، فقال علي: لا والله لا أَمْحَاهَا. فقال رسول الله صلى اللهم عليه وسلم: أرني مكانها، فأراه مكانها فمحاها وكتب (النبي) ابن عبدالله". وقد روى البخاري في صحيحه الحديث نفسه مع إضافة الراوي عبارة "وليس يحسن يكتب" كجملة اعتراضية فجاءت العبارة كما يلي: "فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم الكتاب -وليس يحسن يكتب- فكتب هذا ما قاضى عليه محمد بن عبدالله"!
وقد علق القرطبي في تفسيره على ذلك بقوله: "قال علماؤنا رضي الله عنهم: وظاهر هذا أنه عليه الصلاة والسلام محا تلك الكلمة التي هي رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بيده وكتب مكانها ابن عبد الله".
وأضاف القرطبي: "ذكر النقاش عن الشعبي أنه قال: ما مات النبي صلى الله عليه وسلم حتى كتب". وأشار القرطبي أيضاً إلى "حديث أبي كشة السلولي" ومضمونه: "أنه صلى الله عليه وسلم قرأ صحيفة لعُيَيْنة بن حصن وأخبر بمعناها". وأضاف: "ونقل عن القاضي عياض أن معاوية كان يكتب بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم فقال له النبي: "ألق الدواة وحرف القلم، وأقم الباء، وفرق السين، ولا تعور الميم، وحسن الله، ومد الرحمن، وجوِّد الرحيم". ويرى بعضهم في كلامه صلى الله عليه وسلم عن الحروف، بما ذكر، دليلاً على أنه كان يعرف أشكالها... وشبيه بهذا ما ورد في حديث رواه البخاري جاء فيه أن النبي قال: "الدَّجَّالُ مَمْسُوحُ الْعَيْنِ، مَكْتُوبٌ بَيْنَ عَيْنَيْهِ كَافِرٌ، ثُمَّ تَهَجَّاهَا: "ك ف ر"، يَقْرَؤُهُ كُلُّ مُسْلِمٍ". كما روى البخاري ومسلم في صحيحيهما حديثاً ورد فيه أن ابن عباس قال: "اشتد برسول الله صلى الله عليه وسلم وجعه (في مرض وفاته) فقال: ائتوني أكتب لكم كتاباً لا تضلوا بعدي فتنازعوا...". كما روى البخاري الحديث نفسه في صيغة أخرى ورد فيها أن النبي قال لمن حضروا بيته لعيادته أثناء مرض وفاته: "هلموا أكتب لكم كتاباً لا تضلون بعده". ويضيف الراوي: "فقال بعضهم: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد غلبه الوجع، وعندكم القرآن، حسبنا كتاب الله. فاختلف أهل البيت واختصموا، فمنهم من يقول: قربوا يكتب لكم كتاباً لا تضلون بعده، ومنهم من يقول غير ذلك، فلما أكثروا اللغو والاختلاف، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "قوموا". ويضيف الراوي: "فكان يقول ابن عباس: إن الرزية كل الرزية (هي) ما حال بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين أن يكتب لهم ذلك الكتاب، لاختلافهم ولغطهم". ويقال إن ابن عباس قصد بهذا أنه لو استجابوا لطلب النبي وأعطوه كتاباً يكتب فيه، لكتب وصية يوصي فيها بالخلافة لعلي بن أبي طالب من بعده. غير أن هذا مجرد تخمين. وما يهمنا نحن هنا هو أن النبي طلب أن يكتب وأنه لا أحد من المحيطين به استغرب منه ذلك، بل بالعكس كان فيهم من قال: "قربوا يكتب لكم كتاباً". وللحديث بقية.