حتى بن لادن يتبرأ من الحكومة السودانية
قرائنا من مستخدمي تلغرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
د. عبدالوهاب الأفندي
يكفي أن يكون الزائر للعاصمة السودانية الخرطوم هذه الأيام علي إلمام معقول باللغة العربية، وأن يجد فسحة من الوقت للاطلاع علي صحيفة أو اثنتين حتي يدرك بسرعة أن شعبية الحكومة هنا تقارب شعبية شارون في جنين. فهناك ما يشبه الإجماع بين كتاب الأعمدة والمعلقين علي أن الحكومة لا ترتكب الصواب إلا قليلاً، وأنها تنتقل من كارثة إلي كارثة. وعندما قبلت أن أجري مقابلات مع بعض الصحف لم يكن يخطر ببالي أن من التهم التي سأضطر للدفاع نفسي ضدها أنني لا أنتقد الحكومة السودانية بما يكفي، أو لا أطالب بإسقاطها بأسرع ما يمكن. وقد بلغ الأمر درجة أن أحد الكتاب الإسلاميين (هل أقول سابقاً؟) علق علي بعض ما صدر عني من نقد للحكومة مع أمل في أن إصلاحها بتشبيه موقفي بموقف الشيوعيين الذين ما زالوا يجادلون بأن الماركسية علي حق بعد انهيار الاتحاد السوفيتي. ولا شك أن تشبيه الفكر الإسلامي بالعقيدة الماركسية من قبل المجاهدين السابقين يعتبر في حد ذاته تعبيراً عن أزمة عميقة ضربت الحركة الإسلامية السودانية ومشروعها في تجلياته السودانية. فأنصار الحكومة السابقون لم يعودوا فقط يرفضون الحكومة ويتمنون زوالها السريع (بل ويعملون لذلك بهمة يحسدهم عليها الشيوعيون)، بل إن كثيرين منهم أصبحوا من أعدي أعداء الفكر الإسلامي في حد ذاته.
كون الحكومة تعاني من أزمة شعبية ينبغي ألا يدهش أحداً، لما هو معروف من أنها كانت قد بدأت عهدها بحل كل الأحزاب والنقابات، ودخلت بالتالي في معارك مع كل القوي السياسية والمدنية فيما عداها أنصارها من الإسلاميين، ثم ثنت بالانقلاب علي الإسلاميين. ولهذا فإنها لم تترك لنفسها صديقاً. ومع ذلك فإنني وجدت اتساع وعمق المشاعر المعادية لها في الصحافة المحلية مدعاة لبعض التأمل. فالحكومة حققت في السنوات الأخيرة إنجازات لا بأس بها، مثل استخراج النفط، وعقد اتفاق السلام في الجنوب، وغير ذلك. وكان ينبغي أن تؤدي هذه الإنجازات علي الأقل إلي تخفيف النقد لها إن لم يكن إلي الإشادة. ولكن القليلين فقط بدوا مستعدين لإظهار أي تقدير لما حدث من تقدم، علي الرغم من أن الحكومة تمارس الكرم الحاتمي مع من يقفون إلي جانبها بعد أن استبدلت سوق الصحافيين إلي المعتقلات بسياسة الإغداق علي الموالين من عوائد النفط التي قال عنها الشيخ الترابي مؤخراً أنها تخرج من بئر معروفة وتدخل في أخري لا يعرف لها قرار. حتي اتفاق دارفور الأخير الذي هلل له إعلام الحكومة الرسمي، يواجه عاصفة من الانتقادات في الصحافة ومن الأحزاب، ويوشك أن يضاف إلي هفوات الحكومة لا إنجازاتها.
ولعل ما جاء في تسجيل بن لادن الأخير الذي بثته الجزيرة الشهر الماضي من نقد للحكومة في معرض إعلانه أنه وجماعته سيتصدون للدفاع عن دارفور والسودان بعيداً عن الحكومة مفارقة تضاف إلي دلائل العزلة المتزايدة لأهل الحكم. ولا شك أن من يتبرأ منه بن لادن الذي أصبح الجميع يتبرأون منه ومن قاعدته يواجه مشكلة حقيقية.
البعد الأهم في مشكلة الحكومة يأتي من إصرارها علي احتكار كل مزايا السلطة، بما في ذلك الفضل في كل إنجاز سياسي وعوائد النفط التي تتعامل معها تعامل بعض أمراء الخليج. وهذا بدوره أدي إلي العكس، وهي أن الناس يرفضون أن ينسبوا إليها أي فضل ويرفضون كل ما يعزز ما تتمتع به من امتيازات الاحتكار. وكنت قد قلت في إحدي المقابلات الصحافية التي أجريت معي في الخرطوم بأن استمرار الحكومة بنهجها الحالي سيؤدي إلي تمزيق البلاد، لأن احتكارها الخانق للسلطة يدفع بفئة بعد أخري للتمرد، في حين أن نهج الحكومة هو تقديم تنازلات للمتمردين علي حساب سيادة ووحدة البلاد إلي أن لا يبقي منهما شيء.
ونوع الصفقات التي تعقد في هذا المجال تسعي إلي تعزيز مواقع البعض في السلطة في ترتيبات ذات طابع يكاد يكون شخصياً. وهذا بدوره يؤدي إلي توسيع المجموعة التي تحتكر السلطة بدون سند شعبي، دون أن توسع سندها الشعبي. ويمكن أن يقال بدقة أكثر توسيع الهامش حول المجموعة المعنية، لأن القادمين الجدد لا يمنحون مكاناً في قلب دائرة صنع القرار التي تضيق ولا تتسع، بل يمنحون امتيازات وترضيات تقنعهم بترك احتكار السلطة علي حاله، مقابل بعض الامتيازات الشخصية، أو مقابل إقطاعهم إقليماً أو ضيعة. ذلك أن النظام يعمل حتي في االقلب ، بنظام الإقطاعيات. فمؤسسات الدولة (الجيش، الأمن، الاقتصاد) وبعض الوزارات والمؤسسات والشركات التابعة لها، وكثير من الولايات، تمنح إلي بعض الموالين كإقطاعيات يديرها القائم عليها كإمبراطور مطلق الصلاحية، ولا تكون بقية المؤسسات، وحتي السلطات العليا أحياناً، علي علم بما يجري في تلك الإقطاعية. ولعل أبرز مثال علي ذلك وزارة النفط التي لا تعلم حتي وزارة المالية الكثير من شأنها.
بعض المعلقين اعترض علي بعض ما قلت في مقابلة مع التلفزيون السوداني عن هشاشة اتفاق السلام الحالي في الجنوب، كما فعل الدكتور خالد المبارك في اعتراضه في عموده في الرأي العام علي وصفي للاتفاقية بأنها مجرد تسويات، مؤكداً أنها بالعكس، المشروع الوحيد العملي في الساحة السياسية بعد انهيار النسخة الأولي الاممية من مشروع الانقاذ وبعد انهيار الاتحاد السوفيتي وكتلته وبعد تخلي الحركة عن محاولة اخضاع الشمال وتغيير هويته . وأضاف يقول إن عدم إدراكي لما في الاتفاقية من واقعية سياسية وبعد نظر وحكمة يعود إلي كوني من الاكاديميين الذين لا صلة لهم في حياتهم وخبراتهم السابقة بالنشاط السياسي العملي المباشر .
هذه الحجة تذكرني بالمقولة القديمة الجديدة (استخدمها الأخ عمار أحمد آدم في اتهامه لي في تعليق بصحيفة السوداني بأنني حسنت الظن أكثر من اللازم بالشيخ الترابي)، وهي حجة أن البعد عن الوطن قد يغيب بعض الحقائق عن المراقب البعيد. وكما رددنا في السابق، فإننا نقول ليت هذه الحجة كانت صحيحة، وليت الحقائق تكون مختلفة حين يقترب المرء منها مما بدت حين تأتيه تفاصيلها في هذا العهد الذي أصبح يأتيك فيه بالأنباء عن كل صغيرة وكبيرة من لم تزود. وليتنا كنا كما وصفنا د. خالد في براءة الأطفال والأكاديميين، ولم تكن لنا تلك المعرفة الوثيقة بصناع السياسة السودانية الحاليين الذين عملنا معهم كتفاً بكتف في خنادق العمل السياسي منذ أيام الدراسة. وليتنا لم نقض معظم العقدين الماضيين في خضم العملية السياسية، خاصة الجانب المتعلق منها بمفاوضات السلام في أبوجا ونيروبي، وقبل ذلك وبعده في صياغة مبادرات مع الإخوة فرانسيس دينق وبونا ملوال وآخرين. وليت الأمر لم يكن بحيث لو جمعت الأميال التي قطعناها في الأعوام القليلة الماضية ونحن نطوف عواصم العالم لمناقشة سبل إنهاء تلك الحرب لأوصلتنا إلي القمر، وإذن كنا نشارك المتفائلين تفاؤلهم بالتزام الأطراف باتفاق السلام وحرصهم علي إنفاذه.
ويجب أن أضيف هنا بأن وصف اتفاقية السلام أنها تسويات لا يعيبها في حد ذاته، فكل اتفاق سياسي هو في النهاية تسوية. ولكن الإشكال في هذه التسوية أنها ينقصها الصدق، لأن طرفيها يعلنان علي الملأ أنهما لم يتخليا عن مثقال ذرة من برنامجهما المتعارضة، وكل منهما يريد أن يأكل كعكته ويحتفظ بها، ويتربص بالآخر الدوائر ويتحين الفرص للوثوب عليه. وهذا وضع بعيد كل البعد عن المثالية والواقعية معاً. ويعتبر ما جاء في تفاصيل اتفاقية السلام وتطبيقاتها هو توسيع لنظام الإقطاعيات، حيث تم إقطاع الجنوب للحركة الشعبية مقابل التواطؤ مع أهل الحكم في استمرار احتكارهم للسلطة في المركز. فعلي سبيل المثال نجد الحركة الشعبية يئست من أن يكون لها أي تأثير علي قطاع الإعلام، فقررت أن تبني أجهزتها الإعلامية الخاصة بها من صحافة وتلفزيون وقنوات فضائية، لدرجة أن حكومة الجنوب طردت أخيراً ممثلي وكالة السودان للأنباء ومراسلي التلفزيون القومي من أراضيها. فالجنوب أصبح سلفاً يدار كدولة مستقلة، وهو في ذلك لا يختلف كثيراً عن ولاية الخرطوم أو وزارة النفط. وعليه فإن الحديث عن الاستفتاء للنظر في خيار الوحدة والانفصال أصبح تحصيل حاصل، لأن الانفصال أصبح واقعاً. والذي نخشي منه ليس أن تقوم حركات انفصالية في دارفور أو الشرق، بل في الشمال أيضاً. فالحكام الحاليون أصبحوا لا يمثلون شمالاً ولاجنوباً، ولا إسلاميين ولا علمانيين، بل يمثلون أنفسهم وأنفسهم فقط.
ولعل النتيجة التي عدنا بها من زيارة الخرطوم الأخيرة أننا فعلاً لم نكن ندرك الحقائق الكاملة، إذ أننا لم نكن بالفعل ندرك حجم العزلة التي تواجهها الحكومة ومدي اليأس الذي أصاب الناس من صلاحها، ربما لأننا كنا في عقلنا الباطن نعزي أنفسنا بأن الكارثة ليست بالحجم الذي وصلت إليه. وإنا لله وإنا إليه راجعون.
التعليقات
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف