الليبرالية في مواجهة النظام القديم‏!‏

الخميس: 2006.05.25

السيد يسين


من مفارقات التاريخ الفكري الغربي الحديث أن يصدر في عامrlm;1944rlm; قبل النهاية الفعلية للحرب العالمية الثانية عامrlm;1945rlm; كتابان شهيران ينحو كل منهما منحني مضادا تماما للآخرrlm;,rlm; الأول كتاب المؤرخ الاقتصادي المجري كرل بولاني التحول العظيم والثاني كتاب المفكر السياسي المجري أيضا هايك وعنوانه الطريق إلي العبوديةrlm;.rlm;

أما الكتاب الأول الذي حاولنا من قبل أن نلخص في عجالة أفكاره الأساسية فمازال منذ صدوره يعتبر الكتاب العمدة في التاريخ لنشأة السوق الرأسماليrlm;,rlm; غير انه لم يقم فقط بالدراسة التاريخية للسوقrlm;,rlm; وإنما تجاوز ذلك لكي ينقد نقدا عنيفا فكرة السوق الرأسمالية الذاتي التنظيمrlm;Selfegulatedrlm; أي الذي ينظم نفسه بنفسه من خلال آلية العرض والطلبrlm;.rlm;

وأكثر من ذلك فإن كارل بولاني بشر صراحة بضرورة القضاء علي اقتصاد السوق والعودة بصورة أو بأخري إلي ما قبل ظهور السوق الرأسماليةrlm;,rlm; الذي تبين من خلال التطبيق أن سوءاته أكثر من إيجابياتهrlm;,rlm; لأنه يمكن ان يمزق نسيج المجتمعrlm;,rlm; بحكم منطقه الذي يقوم علي أساس تحقيق الربح الوفير للوحدات الرأسماليةrlm;,rlm; حتي لو أدي ذلك إلي إفقار الطبقات الاجتماعية الوسطي والدنياrlm;.rlm;

وإذا نظرنا إلي الكتاب المضاد الذي ألفه هايك الطريق إلي العبودية لوجدناه وثيقة إدانة ايديولوجية عنيفة ضد تجربة الاتحاد السوفيتي في تطبيق فكرة الاقتصاد المخططrlm;,rlm; والذي يقوم أساسا علي الغاء السوق بحكم التدخل الواسع المدي للدولة في مجري العملية الاقتصاديةrlm;.rlm;

والسؤال الذي يطرحه تاريخ الأفكار بالنسبة لهذين الكتابين وما كان بينهما من خصومة فكرية حادة يتمثل فيrlm;:rlm; ماهو قال كل منهما بعد مرور أكثر من ستين عاما علي صدورهما؟

الاجابة المدهشة ان كتاب هايك صدقت نبوءتهrlm;,rlm; لان الاتحاد السوفيتي الذي هاجمه بشدة سقط بالفعل سقوطا مدويا نحو عامrlm;1989,rlm; وبالتالي انتهت قصة كتاب هايك الذي أدي دوره بكفاءة عظيمة في الصراع الايديولوجي العنيف بين الشيوعية والرأسماليةrlm;.rlm;

أما كتاب بولاني فكان من المفروض ان يسقط من ذاكرة التاريخ بحكم فشل نبوءته في سقوط نظام السوقrlm;,rlm; وذلك لاننا ـ بكل بساطة ـ نعيش في عصر العولمة حقبة الازدهار غير المسبوق لفكرة السوق الرأسمالي الحرrlm;,rlm; وخصوصا في ظل الليبرالية الجديدة التي أصبحت هي الايديولوجية الاقتصادية السائدة في بداية القرن الحادي والعشرينrlm;,rlm; وخصوصا بعد السقوط المدوي لفكرة التخطيط الاقتصاديrlm;,rlm; وانهيار النظم التي قامت علي أساس اقتصاد الأوامرrlm;.rlm;

غير ان دهاء التاريخ له منطق آخرrlm;!rlm; وذلك لان تناقضات العولمة المعاصرة والتي تجلت اساسا في الثاتشريةrlm;(rlm; نسبة إلي ثاتشر رئيسة وزراء انجلترا السابقةrlm;)rlm; والريجانيةrlm;(rlm; نسبة إلي رونالد ريجان الرئيس السابق للولايات المتحدة الأمريكيةrlm;)rlm; والليبرالية الجديدةrlm;,rlm; وما أطلق عليه توافق واشنطنrlm;WashingtonConsensusrlm; كل هذه الصور المتعددة لاقتصاد السوق الحر ظهرت سلبياتها العميقة في التطبيقrlm;,rlm; فقد هوجمت هذه العولمة الرأسمالية المتوحشة من وجهات نظر متعددة عرقية ودينية وقوميةrlm;,rlm; وبنيت الانتقادات علي أساس ان العولمة الرأسمالية أدت إلي عمليات اقصاء اجتماعي لطبقات عريضة واسعة المديrlm;,rlm; بل أدت إلي تهميش عديد من البلاد النامية في اطار الدورة الرأسمالية العالميةrlm;.rlm;

وهكذا ـ علي غير توقع ـ حدثت عملية احياء فكري واسعة المدي لفكر كارل بولاني في كتابه التحول العظيم بحكم انه كان الرائد الفكري الذي سبق له ان انتقد بعنف فكرة السوق الرأسماليrlm;,rlm; وبشر بسقوطه بالمعني التاريخي للكلمةrlm;.rlm;

بطل النظام القديم
ولم يكن غريبا أن يتصدي هايك ـ الذي هاجر مثله في ذلك مثل بولاني إلي الولايات المتحدة الامريكية في الاربعينيات ـ لعملية احياء فكر خصمه اللدود كارل بولاني في الوقت الراهنrlm;.rlm;

ولذلك نشر هايك مقالة نقدية مهمة بعنوان بطل النظام القديمrlm;:rlm; سلطوية كارل بولاني في كتاب التحول العظيم ويقرر هايك في صدر مقالته أن السنوات التي جرت فيها الحرب العالمية الثانية مثلت حقبة سادها خوف عظيمrlm;,rlm; وإن كان فتح الباب أمام أمل عظيمrlm;,rlm; وكتاب بولاني التحول العظيم كتب في سياق هذا الخوف والفزعrlm;,rlm; ومثل في الواقع تراكما لعقائد المؤلف حول الاقتصاد والمجتمع وأضاف هايك ان غرضه من كتابة المقالة هو التحليل النقدي لافكار بولاني عن السوق والمجتمع والليبراليةrlm;,rlm; بالاضافة إلي اثبات أن المعالجة الايديولوجية وليست العلمية هي التي سيطرت علي الكتابrlm;.rlm;

والواقع أن مقالة هايك يمكن اعتبارها نقدا صارما لأفكار بولاني الأساسية من خلال تفنيد الامثلة التاريخية التي استند اليها خصوصا فيما يتعلق بتشريحه لظاهرة الاستغلال الرأسمالي في بلد مثل الهندrlm;,rlm; وذلك بالاضافة إلي نقده للنزعة غير العلمية لبولاني في مجال التغني بالتماسك الاجتماعي في المجتمعات ما قبل الرأسماليةrlm;,rlm; والتي لم يكن دافع الربح فيها هو الحافز الأساسي للدورة الاقتصاديةrlm;,rlm; بل انه يضيف أن المصدر الرئيسي للمجاعات في نصف القرن السابق علي كتابة كتابه هو السوق الحر في الحبوب مصحوب بتدني دخول السكان المحليينrlm;.rlm;

ويحاول هايك أن يفند حجج بولاني علي أساس انها لاتستند إلي معطيات تاريخية صحيحةrlm;,rlm; ولا إلي تحليل اقتصادي دقيقrlm;.rlm;

والحقيقة ان هايك لم يكن بمفرده في مجال نقد بولاني بل لقد انضم اليه كتاب كثر من أنصار الليبرالية الجديدة ومن أمثلتهم موراي روايتارد الذي نشر علي شبكة الانترنت بتاريخrlm;17rlm; سبتمبرrlm;2004rlm; مقالة يكفي عنوانها للدلالة علي مضمونها وهوrlm;:rlm; تسقط البدائيةrlm;:rlm; نقد صارم لبولاني وهو يتهم بولاني بأنه يدعو إلي العودة إلي نمط الحياة التي كانت تعيشها الشعوب البدائيةrlm;,rlm; تأثرا بأفكار روسو الرومانتيكية عن العودة للطبيعةrlm;,rlm; وبساطة الحياةrlm;,rlm; بل أنه يتهمه بالتعبد في محراب الحياة البدائيةrlm;.rlm;

وهذا النقد لايرقي بحكم تشويهه لفكرة بولاني إلي مستوي النقد العلمي الرصين الذي سبق لهايك ان مارسه في مناقشته الممتازة لكتاب التحول العظيم وأيا ما كان الأمر فان عملية احياء فكرrlm;,rlm; بولاني لم تتوقف عند حدود نقد فكرة السوق الرأسماليrlm;,rlm; والاستناد اليها في مجال نقد العولمة الاقتصادية الراهنةrlm;,rlm; ولكنها تعدت ذلك بكثير لتكون أساسا لعملية البحث عن نظام عالمي جديدrlm;.rlm;

إن إحياء فكر كارل بولاني يمثل حالة دراسية نموذجية يعني بها أشد العناية تاريخ الافكار وسوسيولوجيا المعرفةrlm;,rlm; ونعني احياء نظرية قديمة وبسط نطاقها لتحلل وتفسر ظواهر معاصرةrlm;.rlm;