حانت لحظة الانسحاب من العراق
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
السبت: 2006.06.03
توماس فريدمان
أعلن لنا الرئيس جورج بوش أن التقرير في مسألة الانسحاب من العراق, أصبح من مهام الرئيس الذي يخلفه في البيت الأبيض. ولكن من وجهة نظري الشخصية, فإن الأمر لم يعد كذلك البتة, وليس في وسع بوش التمتع بنقل مهمة العراق إلى خلفه. فها أنتم ترون بعيونكم كيف يصارع التمرد العراقي "سكرات موته" الأخيرة, تماماً كما حدثنا نائبه ديك تشيني من قبل! ومن أسف أنه يجري استبدال التمرد اليوم, والفوضى المحتملة في مناطق الجوار كلها, بنشر الديمقراطية هناك. ولست أحسب أن صبر الأميركيين سيمتد عامين آخرين ونصف العام على مجالسة طفل الفوضى, بدلاً من مهمة توليد الديمقراطية التي وعدوا بها. وما ذلك التقرير الذي صدر مؤخراً عن ضلوع قوات "المارينز" في جرائم مذابح جماعية وقعت بحق المدنيين العراقيين في مدينة "حديثة" -وهو ما يجب على "البنتاغون" الإسراع بجلاء وإعلان حقائقه- إلا تذكرة أخرى باستحالة استمرار الاحتلال الأميركي للدول والشعوب سنوات وسنوات. والحق يقال إن معظم جنودنا المرابطين في العراق, أدوا مهام بطولية جبارة. إلا أن الاعتراف بهذا, لا يمنع الإقرار بأن النتيجة الطبيعية لاستمرار الاحتلال الأجنبي, هي وقوع الكثير من المذابح على غرار "حديثة".
وحتى هذه اللحظة, فها نحن نسدد فاتورة كل الأخطاء التي ارتكبها فريق بوش في العراق: من نهْب وسلْب للمدن على إثر سقوط بغداد, إلى تسريح للجيش العراقي دون توفير بديل أمني, أو ضمان وجود عدد كافٍ من الجنود الأميركيين محل العراقيين المسرَّحين, إلى رعاية لثقافة التعذيب وانتهاك حقوق السجناء في أبوغريب, وصولاً إلى ترك حبل السياسة العراقية على الغارب لعدة أشهر, دون أن نصل إلى أي من النتائج المرجوة. وكل هذه العوامل مجتمعة, أسهمت في خلق فراغ أمني, أفسح المجال واسعاً أمام مليشيات العنف الطائفي المنفلت, وفرق الإعدامات والقتل, وعصابات تنظيم "القاعدة" التي قويت شوكتها وانتشرت في كل من البصرة وبغداد والمثلث السُّني. والنتيجة النهائية, حتى بعد انضمام التيار الرئيسي السُّني إلى الحكومة والعملية السياسية, هي عجز عن إحلال الاستقرار المنشود. وبسبب التطاحن وذبح المليشيات الطائفية لأفراد بعضها بعضاً من المدنيين, وبفعل نيران العنف والتفجيرات العشوائية التي ينفذها مقاتلو تنظيم "القاعدة" بحق المدنيين, فإنه لن يكون في وسع الحكومة العراقية الجديدة المضي في أداء مهامها. وما أكثر العراقيين الذين استبد بهم شلل الخوف والرعب من الإرهاب!
وفي الحقيقة فقد طرأ تغير طفيف ومهم على طبيعة العنف في العراق. ذلك أن العدو الرئيسي في الكثير من مدنه وقراه لم يعد التمرد السُّني, بل الفوضى العارمة, وإشعال الحروب الصغيرة من قبل الجميع وضد الجميع. وحسب التقرير الذي نشرته "بي بي سي" من البصرة يوم الأربعاء الماضي, فقد أعلن رئيس الوزراء نوري المالكي عن بدء سريان حالة الطوارئ, لمدة شهر كامل في مدينة البصرة التي عصفت بها النزاعات الطائفية والفوضى والتناحر بين شتى الفصائل المتنافسة فيها. وتلك هي على وجه التحديد سمات الفراغ الأمني. فما أن تتقد شعلة هذا الجنون الطائفي, حتى يصعب جداً استئصال شأفته. ولن يكون في وسع القوات الأميركية فعل هذا, لكونه يتطلب تفتيش البيوت بيتاً بيتاً, وهي مهمة لا يقدر عليها إلا جيش عراقي وطني موحد. وما من سبيل واحد لتحقيق هذا الهدف, إلا وجود حكومة وحدة وطنية مرضية للجميع, وحافزة لاستثمار جميع أطرافها في بناء جيش وطني موحد, بدلاً من الاستثمار في بناء المليشيات الطائفية ذات الولاء الخاص والانعزالي.
وهذا هو الواجب المُلح الذي لابد للعراقيين من البت فيه والإسراع بإنجازه. وفي المقابل فقد حانت اللحظة التي يتوجب فيها على واشنطن بدء الحديث عن جدول زمني لسحب قواتها من العراق. والسبب هو أنه ليس في مقدور أي قوة أجنبية, سحق ثقافة المليشيات هذه التي تغرس جذورها في العراق. ولإنقاذ العراق من هذا المأزق أهمية بالغة بالنسبة له ولكافة دول الجوار الإقليمي, خاصة وأن المنطقة برمتها تواجه تيارين خطيرين: أولهما الانفجار السكاني وتزايد أعداد الشباب الباحثين عن عمل, وثانيهما انفجار الأرباح النفطية. والمشكلة أن الأنظمة العربية الأوتوقراطية القابضة, لا توظف هذه العائدات الهائلة في تعليم الشباب ولا لإعدادهم لمواجهة تحديات القرن الحادي والعشرين. لذلك وما أن تتراجع هذه العائدات, حتى يتحول غول الانفجار السكاني الهائل, إلى قوة مزلزلة لاستقرار العالم العربي بأسره. ولهذا السبب, فمن الأفضل غرس نظام حكم بديل في العراق, قبل أن تحين هذه اللحظة المدمرة.
ولكن ها هو الوقت يقطعنا, وها نحن نخسر العراق لصالح الثيوقراطيين الطائفيين والفاشيين الإسلامويين, والطغاة الإقليميين, الذين يوحد بينهم جميعاً هدف واحد هو ضرورة فشل أميركا وحلفائها العراقيين, والحيلولة دون تجذر الحداثة والديمقراطية في تراب العراق. وستكون مأساة دولية فيما لو نجح هذا التيار المعادي في مسعاه. ولكن ما أصعب منازلة عدو لا هدف آخر له سوى دفعك إلى الهزيمة, بصرف النظر عما يترتب على ذلك من نتائج. ومن هنا تنبع أهمية قوة مشاركة القيادة العراقية في وقف المأساة. وما لم تبرز هذه القيادة قبضتها, فإنه لن يكون بمقدورنا الاستمرار في مطالبة أبنائنا بتقديم التضحيات لأمة تكره بعضها بعضاً أكثر مما تحب أبناءها وفلذات أكبادها