ازدهار الرواية السعودية.. بين الفن والتقريرية
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
السبت: 2006.06.03
عبد الرحمن الحبيب
من الظواهر الجديدة في مجتمعنا السعودي ازدهار الرواية السعودية، وزيادة الاهتمام بالعمل الروائي سواء عبر العدد المتنامي لكتاب الرواية أو سرعة نفاد الطبعات الأولى أو تسابق قنوات الإعلام عليها..إلخ. فلماذا هذا الازدهار الروائي؟ وعلى أية معايير يقوم؟
دون أن أخوض في الأسماء لكثرتها وعدم اتساع المجال لها هنا، أرى بداية أنه من المناسب التمييز بين أديبات وأدباء يكتبون القصة والرواية وفقاً لطبيعتها الأدبية ولهاجسهم الإبداعي في المقام الأول، وأولئك لهم نقادهم وجمهورهم الأدبي النخبوي، وبين كاتبات وكتاب ليسوا أدباء في الأساس، بل تعاملوا مع هذا النسق الأدبي كوسيلة تعبير، وهذا حقهم المطلق، لكن السؤال: هل طريقة تعاملهم مع هذا الأدب كانت فنية أم مجرد كتابة عامة لا علاقة لها بالرواية كفن قدر علاقتها بالرواية كأخبار ومعلومات؟ هل هو عمل مهني أم عشوائي " بالبركة" كيفما اتفق؟ والإشكالية هنا، هي أن معيار الإجابة على هذا السؤال أصبح يعتمد على الذائقة الجماهيرية المتلهفة لكشف الخبايا، التي تتعامل مع الرواية كأحداث إخبارية وحكايات وسير ذاتية تقريرية، وليس كفن روائي له مقوماته الفنية الجمالية.
فثمة جمهور حجبت عنه المعلومات وهو متعطش لكشف المحجوب من الأخبار والأحداث والسلوكيات والممارسات الاجتماعية والسياسية، فصار قطاع كبير من الناس يهتم بتلك الروايات التي تكشف ذلك المستور وتناقشه حكواتياً شفهياً بأسلوب تقريري مباشر. فالمسألة عبارة عن حكاية أو " سوالف" تقولها الكاتبة أو الكاتب، تتميز بالجرأة وروح المغامرة الحكواتية.. لذلك ليس غريبا زيادة الاهتمام بالمرأة الروائية لأن الفضائح عندما تسجلها تغدو أكثر جاذبية وإثارة من تسجيل الرجل في مجتمعنا المفرط في محافظته.. أما قضية الحبكة الدرامية والسياق الفني ومتانة اللغة وجزالة اللفظ وجمال الصياغة وروعة الصور وعمق الرؤية والبحث في مكنونات الذات واكتشاف التفاصيل والغموض الإبداعي بما فيه من تجديد جمالي وتوظيف المفردة واستخدام اللاوعي والرمزية والحلم وكل ما يتطلبه الفن من مقومات فتلك مسألة ثانوية..
وهنا يصبح الروائي المبدع ومعه الناقد الأدبي وكذلك المراقب الثقافي هامشيين وفي حيرة من أمرهم إزاء المد والاهتمام الجماهيري (غير الفني) الذي يُعنى بتلك الأعمال، سواء كان هذا الاهتمام ترحيباً أو شجبا.. لأن المقياس هنا هو الخبر، ويليه وجهة نظر الراوي المباشرة أو غير المباشرة.. المقياس هنا، هو الإثارة العامة (الصحفية) وليست الإثارة الجمالية الفنية.. لذلك كثر الروائيون والروائيات الذين يرددون فكرة أن الجمهور هو الناقد الأول، وأن الناقد الفني (ومعه النخب المثقفة) هو فنان فاشل أو محبط ومعوق لانطلاقة العمل الروائي. مثل هذه الأفكار قد تكون سليمة عندما نوجهها لنقاد تقليديين يصرون على المحافظة على القوالب القديمة الجامدة ويرفضون التجديد، بينما نجد أن كثيراً من النقاد على النقيض يطالبون بكسر القوالب التقليدية والحكواتية إلى أفق أوسع ورحابة أكثر إبداعاً وغير منحصرة بالأفكار التقريرية والمعلومات الخبرية..
صحيح أن أي رواية تتضمن معلومات خبرية (سياسية واجتماعية) ووجهة نظر وأفكارا منحازة وربما أيديولوجيا، وذلك لا يعيب العمل الروائي عندما يأتي في قالب فني وليس في صيغة تقريرية خبرية. إن الخبر ووجهة النظر المرتبطة به ليست مسألة جمالية بحتة، ولا تدخل في التجربة الفنية الذاتية لألق الفنان وهاجسه الإبداعي، بل مسألة موضوعية تأتي في سياق العمل الفني ولا تكون هي المعيار الأساسي لهذا النوع من الكتابة. لو كانت الفكرة أو المعلومة أساس الكتابة الفنية لكفى الكاتب أن يطرح فكرته أو هواجسه بصياغة موضوعية علمية، فمن تعنيه في المقام الأول بعمله الكتابي المعلومات ووجهة النظر يمكنه صياغتها في مقالة أو بحث أو كتاب، أما من يتصدى للعمل الفني، فعليه الاجتهاد في إبداعه الجمالي الخاص به والخاص بالقالب الفني الذي يمارسه..
والمسألة ليست مقتصرة على الاهتمام الجماهيري بالعمل الروائي، بل على كل أنواع الفنون من شعر ورسم وتمثيل، حيث أصبح المقياس هو جرأة الطرح الموضوعي، وليس الفني. لذا ظهرت إشاعة تقول إن من يريد لروايته الاشتهار عليه أن يبحث عن فقهاء أو محافظين يحرمون روايته أو يمنعونها رقابياً، فيذيع صيتها بين الجماهير ويتكالب الطلب عليها!!.. هذا لا يعني أن الرواية الجريئة في طرحها السياسي مثلا، هي رواية ناقصة أو غير مبدعة فنياً، بل يعني ببساطة أن مقياس الإبداع مختل..
وثمة سؤال يتبادر للذهن: لماذا لا تكتب الكاتبة أو الكاتب فكرته بشكل موضوعي غير فني، عبر مقالة مثلا؟ لماذا الإصرار على الكتابة الفنية من كتاب غير مبدعين فنياً، ولا يعنيهم الفن الأدبي، بل تعنيهم الفكرة الموضوعية؟ في ظني أن ذلك يعود لسببين؛ هما الخوف والكسل.. الخوف من الرقابة الرسمية والاجتماعية؛ والثاني التكاسل عن الكتابة الموضوعية المضنية ومن ثم الهروب من المحاسبة الموضوعية؟ ففي قالب العمل الفني يمكنك الهروب من صرامة الرقابة وقسوة عقابها بالقول إن هذا مجرد عمل خيالي ونص مفتوح لا علاقة له بالواقع ولا بالحدود الموضوعية.. وفي هذا القالب يمكنك الهروب من النقد الموضوعي لذات السبب، وهو الزعم أن ذلك مجرد خيال وليس عرضا للأحداث ولا طريقة تحليلها ومناقشتها واستنتاجاتها.. ومن ثم يمكنك أن تطرح الأحداث كيفما تريد، وتصوغ أفكارك باسترسال عشوائي مداخلاً المراحل الزمنية والتيارات الفكرية وفقاً لمزاجك الشخصي وليس الفني..
هذا يقودني إلى ما أسميه " الكسل الثقافي العربي"، فأشهر فن عربي هو الشعر، لأن كل ما على الشاعر - المبدع وغير المبدع- هو أن يسترخي ويكتب قصيدته ثم ينام.. والآن الرواية - بهذه الطريقة العربية - فكل ما عليك هو الاسترخاء مع حيز من الوقت والمكان، وتكتب هواجسك وأفكارك بصياغة مقبولة صحفياً مع جرأة اجتماعية ومفاجآت لذيذة خاصة إذا كانت محركة للغرائز ومثيرة.. ورغم أن الرواية بمفهومها الفني عمل مضن وليس كسولا، إلا أن الذائقة الجماهيرية العربية لا تحاسبها فنيا بل تنتظر كلاما جريئا تنفس به عن حالتها المقموعة، أو تجابهه مثيرة حوله مزيداً من الاهتمام..
صحيح أن من حق الجميع أن يكتب بالطريقة والأسلوب الذي يراه مناسباً، إلا أن المنطقي أيضاً أن نعترض على أسلوب كتابة نظنها في غير سياقها، بل ونراها تشويهاً للجمال الفني.. فالمسرحية الكوميدية تضحكنا، والمهرج في السيرك يضحكنا، لكن موقع المسرح غير موضع السيرك؛ ولكل مقام مقال.. الخطورة هنا، إنه إذا كان الفن المبدع يعطينا المتعة الراقية ويمنحنا فرصة تذوق الجمال واكتشاف التفاصيل المهملة وخبايا النفس البشرية ويرتقي بمشاعرنا ويهذب أحاسيسنا ويصقل تجربتنا الإنسانية، فإن رواج الفن المزيف يقوم بتشويه ذلك.. والفن المزيف الذي أقصده هو تحويل العمل الفني وغموضه الإبداعي إلى عمل تقريري خطابي..
لست ناقداً فنياً للرواية أحدد ما ينبغي وما لا ينبغي جماليا.. بل في مقام المهتم بالجمال الفني عموما.. ثمة ازدهار للرواية هذه الأيام تتفتق في مجتمعنا السعودي، هي مفيدة لفن الرواية على المدى القصير وضارة به على المدى الطويل، لأنها تشوه الرواية عبر تعاملها معها كمعلومات وجرأة إخبار وليس كفن.. ومع مرور الزمن وبمجرد اعتيادنا على الانفتاح والمكاشفة في أخبارنا وأحداثنا الاجتماعية والسياسية تغدو هذه الروايات منسية كأي خبر قديم، بينما الإبداع الفني لا يُنسى بتحول الأحداث وقدم الأخبار.. المحزن أن ثمة روائيات وروائيين مبدعين تختفي أعمالهم الجميلة بسبب طغيان المسألة الخبرية على روايات متواضعة فنياً ولكنها مثيرة اجتماعيا، كتابها يتصدرون الإعلام ويدرون أو لا يدرون أن لا علاقة لهم بالفن، ويقومون من غير قصد بتشويه العمل الفني الروائي..