بريماكوف والقضايا العربية
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
السبت: 2006.06.17
د. صالح عبد الرحمن المانع
استضاف مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلامية بالرياض في الأسبوع الماضي السيد "يفجيني بريماكوف" رئيس وزراء روسيا ووزير خارجيتها الأسبق. وقد ألقى محاضرة مهمة عنوانها "مستقبل العلاقات الدولية في عالم متغير". والسيد بريماكوف ليس غريباً عن العالم العربي، فهو صديق للعرب، وقد ولد في كييف بأوكرانيا عام 1929، وتعلم العربية في وقت مبكر، ليصبح مذيعاً في إذاعة موسكو، ومراسلاً لخمس سنوات لجريدة "البرافدا" في القاهرة. ويعتبر بريماكوف شاهداً على الأحداث الكبرى في المنطقة، فهو كان قد حضر مؤتمر (حرض) عام 1965، الذي أنهى الحرب الأهلية اليمنية، كما عاصر سقوط الاتحاد السوفييتي وكان من أبرز الساسة الذين كانوا مقربين من كل من جورباتشوف ويلتسين، كما كان آخر زعيم سياسي أجنبي قابل الرئيس العراقي صدام حسين قبل بدء الغزو ببضعة أيام. ويذكر في هذا الصدد أنه حمل إليه رسالة من الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، بأن يقدم صدام استقالته إلى مجلس النواب العراقي، تفادياً لنشوب الحرب، ويقوم المجلس بتعيين خليفة له. غير أن صدام رفض هذا المقترح، وقال له إنك ستجدنا في هذا المكان بعد عشرة أعوام من هذا الوقت، وغادر بريماكوف القاعة احتجاجاً.
تطرق بريماكوف في محاضرته المطولة عن أمل روسيا في أن تنتهي حقبة التفرد الأميركي في العالم، ليحل محل الاستقطاب الأحادي، نظام جديد يعتمد على تعدد الأقطاب، ويجادل المحاضر أن هناك عدة مراكز للقوى في العالم بعضها ذو طابع اقتصادي وثمة قوى أخرى تحاول بناء نفسها عسكرياً.
ويضرب مثلاً على ذلك بالدور المتنامي لكل من الصين والهند وأوروبا، التي يشعر أنها بدأت تضاهي الولايات المتحدة اقتصادياً وسياسياً، ولكنها لا زالت غير قادرة على تبنّي دستور موحد، أو جيش موحّد. وهو غير سعيد بتوقف عجلة التكامل الأوروبية، ولكنه يرى أن التحالف الغربي يعاني من انشقاق في المواقف بين أوروبا والولايات المتحدة.
وهو يرى أن القوى المحافظة الجديدة داخل الولايات المتحدة التي طمحت إلى أن تتبنى سياسة القطب الواحد والاستفراد بالعالم، والتي بني مشروعها على أساس أن الولايات المتحدة هي التي تحدد مكامن تهديد أمنها القومي وهي التي تصفي هذه التهديدات، وكان أبرز مشاريعها الحرب في العراق، قد أدركت فشل هذا المشروع، وقد بدأت في مراجعة حساباتها بشكل كبير، وعادت مرة أخرى لتحاول صياغة سياسة جديدة تعتمد على تعاون دولي أوثق لإدارة الصراعات والأزمات الدولية.
والعراق كان ولا يزال الهاجس الرئيس للسيد بريماكوف. ومثلما كتب كتابين عن العراق، فهو يحلل الوضع العراقي بشكل متميز. ويرى أن المحافظين الجدد حاولوا تصدير الديمقراطية إلى المشرق العربي عبر بوابة تغيير السلطة في العراق. وهم في هذا الشأن مثلهم مثل "التروتسكيين" في الثورة السوفييتية الذين حاولوا تصدير الثورة والأيديولوجيا عبر حدود قومية متعددة، وفشلوا في ذلك فشلاً ذريعاً. كما أن الاتحاد السوفييتي حاول فعل الشيء نفسه في أفغانستان عام 1979، واعتقد الزعماء السوفييت أنهم يدافعون عن ثورة سوفييتية في أفغانستان، ولكنهم جوبهوا بمعارضة قومية ودينية شديدة واضطروا إلى الانسحاب بعد عشر سنوات من اجتياحهم لذلك البلد. وقد تشابهت الأحوال اليوم مع الأحوال في أواخر السبعينيات. فالولايات المتحدة تغزو هذا البلد الصغير وتحاول فرض هيمنتها عليه، عبر تحالف أطلسي واسع. وربما ستضطر الولايات المتحدة بدورها إلى الانسحاب يوماً ما من أفغانستان، مثلما اضطر الاتحاد السوفييتي إلى الانسحاب من قبل.
ويخشى بريماكوف من تفكك العراق، فالدولة الكردية في الشمال تستكمل جميع أبنية نظامها السياسي والاقتصادي، هذا مع أن آباء الحركة الكردية في شمال العراق مثل البرزاني لم يكونوا يأملون بانفصال الأكراد وإنما بحصولهم على بعض الامتيازات داخل الدولة العراقية الواحدة. ولكن النظام الحالي في الشمال يسعى كذلك إلى استصدار جوازات سفر كردية خاصة بالإقليم. كما أن الولايات المتحدة تشجع أكراد إيران على إنشاء حكومة مستقلة خاصة بهم. وإذا ما حدث ذلك فإن مثل هذه الدويلات ستشكل تهديداً استراتيجياً للدول الكبرى في المنطقة، ولكل من إيران والعراق وللدول العربية الأخرى، وربما تجبر القوات التركية على الدخول مجدداً إلى شمال العراق. ومن ناحية ثانية فإن بريماكوف يتخوف من إنشاء دولة إقليمية في جنوب العراق، ويرى أن مثل هذه الدولة ستكون خاضعة للسلطة الإيرانية وربما تمثل حزاماً طائفياً مسانداً لإيران يمتد من جنوب العراق مروراً بسوريا، وانتهاءً بجنوب لبنان.
إن مثل هذه التحولات والتغيرات تمثل هاجساً كبيراً لروسيا وقد تمثل إعادة توزيع خريطة القوى في المشرق العربي. وبالنسبة للوضع الفلسطيني، فإن السيد بريماكوف غير متفائل، فهو يرى أن سياسة "حماس" الاستراتيجية تتعارض كلياً مع المنظور الاستراتيجي لحركة "فتح". فـ"حماس" ترغب في إنشاء دولة فلسطينية من النهر إلى البحر، وهو هدف مشروع إلا أنه صعب التحقيق، أما حركة "فتح" فهي تريد إنشاء دولة فلسطينية على أراضي الضفة الغربية وغزه، وهو هدف يمكن النضال من أجل تحقيقه. ويرى بريماكوف أن إقدام "حماس" على طرح مشروع سياسي جديد كحلّ للأزمة الحاضرة، من شأنه أن يقلب الوضع على "الصقور" الإسرائيليين.
وقد تداخلت آراء بريماكوف مع حنينه إلى النظام السوفييتي القديم، الذي كان يتيح لفتى صغير مثله ولد في أقصى الجنوب وترعرع في شوارع تبليس بجورجيا، أن يجد طريقه إلى أعلى مراكز السلطة والقوة في البرلمان "الدوما" وفي وزارة الخارجية، ورئاسة الوزراء. وهو يرى أنه كان بالإمكان إنقاذ الاتحاد السوفييتي من التفكك عبر تعميق نظامه (الفيدرالي)، أو حتى تحوله إلى نظام كونفيدرالي.
ولاشك أن تركيز بريماكوف على المناطق الجنوبية من روسيا، لا يعكس فقط جوانب نشأته، ولكنه يعكس إيمانه العميق بأن مصالح روسيا الاستراتيجية هي في بناء نظام تحالف ثلاثي يضم روسيا والصين والهند في منظومة سياسية واستراتيجية متناغمة، غير أن هذا الطرح الذي طرحه بشكل رسمي حين كان في السلطة في نهاية التسعينيات لم يجد آذاناً صاغية إلا في العاصمة الصينية، حيث بنيت منظومة ما يسمى باتفاق شنغهاي. أما العاصمة الهندية ولأسباب اقتصادية واستراتيجية، فقد آثرت أن ترمي بثقلها في حضن غربي مختلف.