نعم... يحق لغير الديموقراطيين أن ينتقدوا أميركا!
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
السبت: 2006.07.08
محمد خالد الأزعر
في حديثه عن الإعلام العربي ونقد الديموقراطية الاميركية (أفكار 18/6/2006)، لام الكاتب حسين عبد العزيز الإعلام العربي الرسمي على كشف زيف الديموقراطية الاميركية بالنظر الى ممارسة واشنطن لسياسات ديكتاتورية ومعادية لحقوق الانسان في الخارج. وأقام حجته على بضعة أسانيد، كالقول إن هذا النقد يأتي من جهات ليست ديموقراطية ولا تملك أي إرث ديموقراطي، وأنه لا أساس لربط الديموقراطية داخل دولة ما بسلوكها الخارجي.
لتأكيد هذه الحجة الاخيرة، التي تشكل المقولة الأم في حديثه، يستلهم الكاتب عبراً من التاريخ السياسي للغرب على صعيدي الفكر والممارسة، ومن ذلك أن "ميكيافيللي تنبه الى الفصل بين دائرتي العلاقات داخل الدولة وخارجها"، وأنه "اذا أخذنا بمنطق الاعلاميين العرب فحريٌّ بنا أن ننفي ديموقراطية أثينا، بسبب محاولتها السيطرة على المدن اليونانية، ووفق المنطق ذاته، يمكن الادعاء بأن أوروبا الاستعمارية لم تكن ديموقراطية".
لا ندري لِمَ خصّ الكاتب الإعلام والإعلاميين بمداخلته، ذلك أن تحري صلة ما بين السياستين الداخلية والخارجية لكيان ما، ولنفترض هنا أنه الدولة، ما انفك يضني فقهاء النظم السياسية والعلاقات الدولية والعاملين عموماً في حقل النظرية السياسية. وربما كانت المعالجات الاعلامية هي الأكثر سطحية وضحالة، كون الإعلام أميل بطبيعته وفي معظم الحالات الى النظرات العاجلة منه الى الدراسات العميقة والشروح المتبصرة.
يمكن في كل حال دحض نظرية القطيعة بين الممارسة السياسية في الداخل وأنماط التعامل الدولي في الخارج، التي يستهدي بها الكاتب مع اثينا وميكيافيللي، بناء على أن السياسات الخارجية للدول هي أحدى تجليات سياساتها الداخلية، وأن العكس صحيح في معظم الحالات. ولو كان الأمر على خلاف ذلك لما كان هناك مسوغ لاعتقاد الديموقراطيين أن الديموقراطيات لا تحارب بعضها بعضا، فيما الديكتاتوريات والسلطويات الشمولية أدعى لإثارة الحروب وازعاج الأمن والسلم اقليمياً أو دولياً. لماذا يُخشى اذن جانب النظم الديكتاتورية على جوارها القريب او البعيد، طالما غابت العلاقة بين طبائع الممارسات الداخلية والسلوك الخارجي للدول؟!
يقال على سبيل المثال ان اسرائيل دولة تكاد تُعامل داخلها تأسيسا على صراعاتها الخارجية، فاشتباكها، مثلا، مع المحيط العربي يغذي بعض ابرز سياساتها ازاء فلسطينيي او عرب 48، كذلك فإن جنوح النظام الاميركي الى بعض التعبيرات اللاديموقراطية في الداخل (كالتنصت على مواطنيه وتزييف الحقائق امامهم... الخ)، يأتي من منظور معين للبيئة الدولية وكيفية درء اخطار خارجية، ولعله من المعلوم بالخبرة راهنا ان كثيرا من سلوكيات هذا النظام الخارجية غداة صعود مجموعة المحافظين الجدد، ترتد الى رؤى داخلية تتبناها وتضطلع برسالتها المزعومة النخب الحاكمة داخل هذه المجموعة. أين هي إذاً القطيعة بين المجالين الداخلي والخارجي، هذا علماً بأن تَعَقُّد المصالح ليس هو ما يفرض الراديكالية السياسية الخارجية على هذه القطاعات، اذ أن المصالح الاميركية تتدفق بالفعل من دون عوائق وبلا راديكالية في كثير من المناطق والمناسبات. كيف لا وقد ثبت يقينا ان لا مصلحة اميركية صرفة في غزو العراق بناء على تلفيقات واتهامات زائفة، وما هي موجبات ممارسة السادية الاجرامية مع سجناء ابو غريب وغوانتانامو الذين لا يملكون لاميركا ضراً ولا نفعاً؟
إلى ذلك، لا يستقيم التمييز بين اداء ديموقراطي في الداخل واخر ديكتاتوري (حتى لا نقول عدواني) ازاء الخارج، من دون الوقوع في محذور العنصرية. فالذين يستأنسون بالديموقراطية وثقافتها وقيمها مع اهل البيت، يفترض ان يكونوا على قدرٍ من الحصانة والانسانوية التي تقيهم شرور السلوكيات السلطوية مع الاخرين في الخارج. من يبسط جناح الرحمة مع ذويه لا يسعُه الانقلاب الى وحشٍ طليق مع الاخرين بسهولة بمجرد مغادرة باب الدار! لهذه الازدواجية ابواب معروفة في علم النفس الاجتماعي ودراسات العصاب، يمكن الرجوع اليها للتفسير والمتابعة. سؤالنا هنا بالتحديد يتعلق بالحديث عن فعل وسلوك مع الذات (الديموقراطية في الداخل) واتيان غيره مع الذوات الاخرى (ما يصفه الكاتب بالراديكالية مع الخارج)؟ ألا تنطوي هذه الظاهرة على شيء من العنصرية؟ لماذا لا تسبغ الممارسة الديموقراطية الاميركية الداخلية تجلياتها وقيمها على السياسات الخارجية الاميركية؟ ألا تُلقي نظرية الكاتب، ومن اهتدى بنهجه، حبل نجاة لسلوكيات واشنطن الدولية المعيبة؟
ويعتقد الكاتب "أن اخضاع العلاقات الدولية لأسس ديموقراطية ولو نظرياً هو وهم كبير، ذلك أن الديموقراطية الدولية حالة لم تصلها البشرية، فقد تحتاج مئات السنين كي تتحقق وربما لن تتحقق..." والحق انه كان بوسعنا الاقتناع بهذا الحكم، لو ان البشرية وعلاقتها الدولية تعيش زمن اثينا وميكيافيللي، أما وقد ورث عالمنا المعاصر جهود سلف صالح على صعيد تنظيم هذه العلاقات في ما يعرف بالقانون الدولي وشرعة حقوق الانسان والشعوب بأجيالها والتنظيمات الاممية المتعددة الاغراض، أما وقد بات لدى البشرية ميراث حقوقي وسياسي لا يكاد يغادر صغيرة ولا كبيرة من حقوق الدول وواجباتها الا أحصاها، فإن الحجة تقوم في وجه الولايات المتحدة وغيرها من الدول، بضرورة الانصياع فقط لاحكام هذه التركة، لتصبح عندئذ من العاكفين على الديموقراطية في الخارج كما في الداخل. ان العلاقات الدولية قطعت بالفعل مئات السنين وبلغت غايتها او قريبا من غايتها في دمقرطة العلاقات الدولية، وكل المطلوب من واشنطن الالتزام والانضباط كي نمسي في عالم افضل ديموقراطيا.
وقد يكون من المثير للكاتب ولنفر من مدرسته ان ندفع بعدم صحة "المأثور" عن اثينا ونصائح ميكيافيللي الذي يسوقه الى السخرية من الذين ينتقدون الديموقراطية الأميركية، فأثينا لم تكن ديموقراطية بمقاييس عصرنا، كونها كانت تميز بقوة ضد "العبيد" و "البرابرة"، وميكيافيللي لا يصلح ناصحاً إلا لمن أراد تحويل العالم الى غابة، ومن أجل اتقاء نصائحه بالذات وفلسفته الأنانية الدونية، تطور فقه القانون والتنظيم الدولي، ولنتصور أن عالمنا الشديد التواصل والعولمة الذي لفرط اتصاله واعتماديته المتبادلة صار كقرية (بحجم اثينا)، لنتصور أن هذا العالم أخذ بوصايا ميكيافيللي لأميره، فكيف تكون تفاعلاته وشبكة علاقاته؟!
ثم انه يصح ايضاً الدفع بانعدام الصلة الخطية التي يقيمها كاتبنا بين الحداثة والديموقراطية، اذ ليس كل الحداثيين ديموقراطيين ولا كل الديموقراطيين بالضرورة حداثيين، فإذا اخذنا الادعاء الشائع حول "ديموقراطية اثينا"، ترى هل كانت هذه المدينة - الدولة اكثر حداثية من اسبرطة واخواتها، وفي تاريخ اقرب هل كان ميكيافيللي أميل للحداثة من هونر، ولمَ نبتعد، هل كانت الولايات المتحدة اكثر حداثية من الاتحاد السوفياتي الآفل الذي وصف نظامه بالشمولية؟
الأرجح أن الحداثة ترتبط بأدوات ووسائل الانتاج أكثر مما ترتبط بالممارسات السياسية والافكار الديموقراطية وعسكها. كان الاتحاد السوفياتي حداثياً من دون أن يكون ديموقراطيا، والارجح ايضاً ان قضية الممارسة الديموقراطية من عدمها مسألة نسبية تماما، وبهذا المعنى يحق نقد الديموقراطية الاميركية بالإحالة لبعض تصرفاتها الداخلية وكذا في المعترك الدولي، ولا يعيب هذا النقد ان يأتي من لدن غير الديموقراطيين بزعم الكاتب، لانهم اولاً أدرى بنوعية الممارسات غير الديموقراطية من ناحية، ولأن لهم مصلحة في نفي ادعاء الديموقراطية عن القوة العظمى التي تشهر بديكتاتوريتهم صباح مساء من ناحية ثانية، ولأن لسان حالهم يهفو للقول من ناحية ثالثة إن هذه بضاعتنا مبسوطة بوفرة عندكم "ولا أحد أحسن من أحد"!.