جريدة الجرائد

عراق الاحتلال يتحول الى متحف جثث

قراؤنا من مستخدمي إنستجرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
الإثنين: 2006.07.17


المليشيات الطائفية والقوات الامريكية تخوض حرب تصفيات عشوائية


هالة جبر - العرب


يزدحم الطريق الى مشرحة جثث القتلى فى بغداد صباح كل يوم.
ففى صباح يوم خميس -اواسط الشهر الماضي- اصطف فى الشارع امام المشرحة 36 كفناً مع حلول الساعة التاسعة والنصف. والى جانب هذه الاكفان وقفت سيارات "مينى باص" فيها نساء باكيات متشحات بالسواد بانتظار الدخول الى المشرحة لتمييز فلذات اكبادهن الذين تعرف امهاتهم ما جرى لهم بالضبط.
والواقع ان شكل مشرحة التوب العدلى التى لا تتميز فى مظهرها عن الابنية المجاورة لا يعطى فكرة عن الفظائع التى اصبح اسمها مقترناً بها مع استمرار اعمال العنف التى حوَّلت بغداد الى مدينة الرعب الكبرى فى العالم.
فالى هذه المشرحة تأتى جثث الاشخاص الذين قتلوا فى الليل والقيت جثثهم فى الشوارع فتعفنت حتى صارت روائحها تزكم أنوف المارة على بعد مئة متر.
فلكل جثمان قصة عن الفظائع التى ترتكب منذ بضع سنوات فى العراق. فبعض الجثث مثقوبة لأن المجرمين المسؤولين عن التعذيب يحفرون اجسامهم بالمثاقب الكهربائية التى تستعمل فى حفر ثقوب فى الخشب او الحديد والتى يسميها المهنيون -المقادح-. والبعض الآخر عليها دلائل الخنق، وهناك جثث مازالت ايدى اصحابها مربوطة وراء ظهورهم ومازالت عليها آثار الجراح التى احدثتها طلقات الرصاص.. وقد جرى التمثيل وتقطيع الاوصال بجثث اخرى وجرى احراق البعض الآخر. -هل يا ترى أُحرقوا وهم احياء ام بعد ان أُزهقت أرواحهم؟-.
وتدل احصاءات وزارة الصحة على ان هذه المشرحة قد استقبلت حوالى 6000 جثة ماتت الاغلبية الساحقة منها ابشع ميتةً. وقد قُتل البعض على ايدى القوات الامريكية وقتل اكثر من ذلك بكثير من جراء الصراع الطائفى والمذهبي.
ويتراوح عدد الجثث القادمة الى المشرحة فى الايام الهادئة ما بين 20 و30 جثة. ولكن كان المتوسط فى الشهر الماضى اكثر من 04 جثة يومياً اذ بلغ المجموع 1384 جثة. وقد الغيت معظم عمليات التشريح لعدم وجود اطباء او موظفين لاداء العمليات اللازمة.
وحالة العائلات العراقية التى فقدت احد افرادها محزنة جداً. اذ انه لا فائدة من الاستفسار عن الشخص المفقود من الشرطة لأنها لن تتخذ اى اجراء. فالاجدى فى هذه الحالة هو الذهاب الى المشرحة اذ ترد اليها حتماً جثث المفقودين. والمحظوظ هو الذى يستطيع العثور فوراً على جثة فقيده. اما الآخرون فانهم يذرعون الشارع ذهاباً واياباً ويلقون نظرةً على كل جثة جديدة تأتى الى المشرحة. ويستمر البحث احياناً بضعة أيام.
وكان بكر صدِّيق وهو طبيب متخصص فى معالجة الصدمات النفسية الشديدة فى قسم الحوادث باحدى المستشفيات -وهو شاب فى التاسعة والعشرين من عمره- يظن انه قد اصبحت لديه مناعة ضد مناظر القتلى والجرحي. ولكن تجاربه السابقة لم تهيئه بما فيه الكفاية لما رأته عيناه عندما زار صديقه الطبيب الذى يعمل فى المشرحة.
ويقول بكر صديق: رأيت فى الشارع اناساً محيطين باكفان منصوبة عمودياً لأنه لم تبق من كثرتها مساحة كافية لتمديدها افقياً. وارتجف صوته وترترقت عيناه بالدموع عندما تذكر ولولة امرأة متشحة بالسواد عندما عثرت على جثث اولادها الأربعة الذين قتلوا جميعاً فى يوم واحد.
وقال بكر: فى حياتى كلها لم اسمع صرخات ألم كالتى سمعتها من تلك الأم الثاكلة. فقد ارتمت على الأرض واخذت تهيل التراب على رأسها. وهذا المنظر اصبح شيئا مألوفاً فى العراق من كثرة الامهات اللواتى انقلبت افراحهن الى اتراح وآمالهن الى احزان ويأس.
وبينما كان بكر صديق وصديقه طبيب المشرحة يتحدثان وصلت سيارة بيك أب تابعة للشرطة وعليها جثث مكدسة فوق بعضها البعض وكأنها اكياس مليئة بالبطاطس. ويقول الطبيب الشاب: "لم تصدق عيناى ان جثث الاموات لم تعد لهم حرمة واحترام بل يجلبون الى المشرحة على هذا الشكل وكأنها جثث حيوانات جيء بها من المسلخ".
وعندما لم يجد رجال الشرطة حمالين لمساعدتهم رموا الجثث فى الشارع فرأى بكر صديق بينها جثتى طفلين عمرهما حوالى 21 سنة فقط.
وقال الطبيب العراقي: "كانت حول رقبة كل واحد من ضحايا جريمة الخنق عقدة من القماش الاخضر -يستخدمها الشيعة عادة فى نذورهم- التى ازهقت روحه. وكانت فى اجسام الضحايا ايضا ثقوب متورمة من تأثير المثاقب الكهربائية التى عذبوا بها قبل مقتلهم بعد التعذيب. ومن المخجل والمؤلم انهم حفروا بالمثاقب فى عيونهم".
وعلق زميله قائلاً: "ان هذه الجرائم روتينية. فالعراق اصبح غابة تسرح وتمرح فيها الوحوش وتفترس بعضها البعض. والفرق الوحيد هو ان المجرمين فى العراق اكثر شراسة من وحوش الغاب".
وسكت الطبيب لفترة وهو ينفث دخان سيجارته ثم قال: "ألا يخافون الله عندما يسمعون صراخ الاطفال خلال تعذيبهم؟ لا انهم لا يخافون ولا يستحون بل يضحكون وهم يحفرون ثقوباً فى اجسام اولئك المساكين الذين لم يرتكبوا ذنباً ولم يسببوا ضرراً".
ومع ازدياد صعوبة وخطورة الحياة فى بغداد كنت آمل ان اغيب عنها بضعة شهور الى ان تهدأ الامور. ولكن تلاحقت الاحداث من مقتل الزرقاوى الى تعيين نورى المالكى رئيساً للوزراء ومجيء جورج بوش الى بغداد فى غمرة الاقتتال بين العراقيين والامريكيين مع انه كان قد اعلن قبل ثلاث سنوات ان الحرب قد انتهت وان امريكا تسيطر تماما على العراق".
وعلى كل حال لاحظت ان معنويات الجنود الامريكيين قد ارتفعت بعد ان خرج الى شوارع بغداد 75 ألف جندى وشرطى عراقى لبذل محاولة جديدة لاسترجاع السيطرة عليها من الميليشيات والجهاديين الذين ركعوا العاصمة تحت اقدامهم. لكن كثيراً من المدنيين لا يشاركون العسكريين فى تفاؤلهم.
ويقف بعض العراقيين على الحياد.. ومن بينهم سمير مهدى مطر البالغ 40 سنة وهو شيعى متزوج من امرأة سنية كانت زميلة له فى الجامعة ورزقا ولدين وابنتين. ويعيش السيد مطر فى منطقة اغلب سكانها مسيحيون وهم مثله غير مرتبطين بعصبيات سياسية او دينية، ويحتفظ مطر فى بيته بصور أئمة الشيعة ولكنه يقول انه لم يشهر مذهبه الدينى قط.
وذات يوم تلقى مطر -الذى يشتغل معلماً- مكالمة هاتفية فى مدرسته تبلغه بانه قد وقع انفجار فى بيته ادى الى مقتل ابنتيه سما -16 سنة- وزهراء -4 سنوات-. ويقول مطر: "ذهبت الى المشرحة فاخرجوا الابنتين من الثلاجة فقبلتهما على جبينهما وكان هذا هو الوادع الأخير".
وعندما صدرت شهادة الوفاة -او بالاحرى المقتل- جاء فيها ان سبب الموت هو انفجار ارهابي. واراد سمير مطر ان اشاهد صورة الطفلة الصغيرة التى قتلت فسلمنى هاتف الموبايل فرأيت على كاميرته صورة بنت صغيرة تضحك وهى تقلد مدخنى السجائر. وقال ابوها "انها كانت طفلة رائعة".
بعد مقتل ابنتيه جاء الى سمير مطر افراد من ميليشيا شيعية وطلبوا ان يعطيهم اسماء الأفراد السنيين الذين زعموا انهم دبروا الانفجار. وقالوا: "اعطنا اسماء اربعين سنياً وسنبيدهم جميعا". فاجابهم سمير انه لا يشتبه بأحد.
وتحدث سمير عن زواره وقال "لقد جاؤا ليريقوا المزيد من الدماء فى هذا البلد المنكوب، فلا خير فيهم. ماذا سنستفيد من جرائم القتل؟".
ومضى يقول "ان دورة القتل والانتقام لا يسهل كسرها. فأى بلد ينهار لا يسهل احياؤه".
الا ان السيدة نجدة عبد الرزاق لا تخفى انها تريد ان تقلع عينى قاتل ابنها هانى الذى كان استاذاً للهندسة فى جامعة بغداد. وهو سنى بلغ 13 سنة عند مقتله.
كانت نجدة فى المطبخ تحضر طعام الافطار عندما رَّن جرس الباب خلال الاسبوع الماضى فخرج ابنها ليفتح الباب فاستقبله وابل من الرصاص استقرت ستة منها فى جبينه وفمه وعنقه وصدره وذراعه اليمنى وساقه. وتقول نجدة: "لا اعرف لماذا حصل هذا؟ هل قُتل لأنه مسلم ورع؟" وبكت نادبة على ابنها وقالت: "هذا البيت لم يعد يؤمن الحماية لنا".
وهناك فى بغداد قصص لا تعد ولا تحصى من هذا النوع. لذا فان الموضوع الرئيسى لكل حديث بين العائلات هو فاجعة الموت. من كان آخر من قُتل؟ وما هى الاساليب الجنونية التى تستعمل فى ارتكاب الجرائم؟ وهل يمكن الخروج من البيت والعودة بالسلامة؟
وفيما يتعلق بمقتل الزرقاوى قال لى عراقيون ان هذا الحادث يدل على ان المقاومة ضد الامريكيين فى العراق لا تتوقف على شخص واحد ولا على القاعدة. فالمقاومة اوسع واكبر من ذلك.
وقال لى شخص اسمه ابو معاوية انه متخصص فى قتل السنة وانه أباد الُسنة الذين كانوا يقيمون فى منطقة العامرية التى يسكن فيها: "فنحن نقتلهم كى يعرفوا ان المسألة جد وليست مزحا. لا احد يستطيع ان يوقفنا. وبالنسبة للقتلى قال اننا لا نريد ان يرفعوا جثث القتلى من الشوارع. بل يجب ان تبقى لينهش الكلاب لحمهم". فالشيعة يرمون جثث السنة على المزابل حيث تأكلها الوحوش".
وهذا كله لا يبشر باقتراب موعد عودة السلام والوئام الى العراق.

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف