العراق.. ألا يُرخي حل الميليشيات حواضن الإرهاب؟
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
الأربعاء: 2006.07.19
رشيد الخيون
تعددت الميليشيات المسلحة حالياً، التي تجوب قرى ومدن العراق كأذرع قوة للأحزاب والمنظمات، ويمكن حصرها بثلاثة أصناف من حيث النشأة: ما نشأ زمن المعارضة، وظل يحتفظ بسلاحه بعد زوال السبب مثل، منظمة بدر. وما ظهر فجأة سط الفوضى وغياب الدولة، مثل جيش المهدي. وما برز تدريجياً مازجاً بين السرية والعلنية، تحت ذريعة المقاومة، مثل كتائب ثورة العشرين، والجيش الإسلامي.
أما البيشمركه الكردية فهي من جنس الميليشيات أيضاً! على اعتبار أنها قوى حزبية. لكنها لا تزال بعيدة عن المواجهة، وتتولى أمن المنطقة الشمالية، وهي بحاجة إلى حراسة متمرسة في حروب الوديان والجبال. لأن خصماً جديداً تدرب على قمم وفي كهوف توربورا أفغانستان، ودخل تحت تسميات مغرية: جند الإسلام، أنصار الإسلام.
كتائب تأصلت من كتائب الإخوان المسلمين بمصر الثلاثينيات والأربعينيات، وتعلمت تفجير الأنفس في صبيحة عيد أو عرس وحتى مأتم. بالتأكيد ليس من مهام البيشمركه مواجهة الجيوش النظامية، إذا نوت التجاوز. لكن علينا تحسب الخطر لو أن تلك الكتائب وجدت طريقها إلى الجبال والوديان، ولم تجد مَنْ يواجهها، ألا تهبط المتفجرات سيولاً إلى أسافل العراق! ومع ذلك، بعد استقرار الحال، لا بد من مركزة السلاح بيد الدولة.
عرفت بغداد أنواع الميلشيات قديماً وحديثاً، حتى أخذت تزاحم الدولة، وكثيراً ما اضطرت إلى مسايرتها لاستغلال نفوذها، أو تجنب شغبها. وكان أخطرها ما ظهر في القرن الرابع الهجري، حتى أضطر الخليفة الراضي بالله (ت 329هـ) إلى منع واحدة منها، تمترست بالسلاح والعقيدة وهم الحنابلة، خشية من الشغب بالطرقات والمساجد (تجارب الأمم). ثم ظهر أمر الفتوة المسلحة، وانتظم الناس فيها. كانت الفتوة العلوية تعقد "اجتماعها في مسجد براثا، بغرب بغداد" (مصطفى جواد، مقال الفتوة وأطوارها). وقد حصلت الفتنة عندما قابل العلوية الشيعية تأسيس الفتوة السُنَّية. قال ابن جبير (ت 614هـ) في هوية الأخيرة: "تعرف بالنَّبوية، سُنّيون يدينون بالفتوة، وبأمور الرجولة كلها... يقتلون هؤلاء الروافض أين ما وجدوهم" (رحلة ابن جبير).
عادت بغداد إلى نظام الفتوة أوان حركة رشيد عالي الكيلاني 1941، وتبنى أمرها الطبيب سامي شوكة (ت 1986)، المعجب بفاشية موسوليني ونازية هتلر (الجادرجي، افتتاحيات جريدة "الأهالي"). أسس شوكة "منظمة من الشباب من ذوي القمصان السُّود"(حميد المطبعي، موسوعة أعلام العراق). وهي عبارة عن ميليشيا قومية، لا تحسب على مذهب أو طائفة.
وبعد ثورة تموز 1958 صدر أمر وزاري بتشكيل ميليشيا المقاومة الشعبية، دفاعاً عن الجمهورية. وكانت ذراعاً للحزب الشيوعي العراقي، وقائدها كردياً اسمه طه مصطفى البامرني. وماذا ينتظر من شباب مسلحين يجوبون الشوارع مزهوين بملابس الكاكي، التي لها القوة والشرعية في اللحظات الثورية، غير مضايقة الناس وإشاعة العنف! لكنها أقل من عام وتحل بأمر وزاري أيضاً. وكان مقابل ذلك التنظيم تشكلت ميليشيات سرية، وأخذت حمأة الصراع تتصاعد عبر الاغتيالات والتصادم في الشوارع، وهناك قائمة طويلة من المغتالين بالأعظمية والأنبار.
ولم ينته الأمر بانتصار البعثيين والقوميين في 8 شباط 1963، بل شكلت ميليشيا الحرس القومي بقانون رقم (35) في التاريخ أعلاه: "يسلح أفراد الحرس القومي بالمسدسات والغدرات (رشاش بور سعيد المصري) والبنادق من الأنواع المتيسرة". وانضم إليها أصناف غير سوية من البشر. إلا أنها تسعة شهور وتحرم بأمر جمهوري أيضاً. وصدر ضدها كتاب "المنحرفون"، وأخذ يُطلق عليها بالحرس اللاقومي. وتزعمها في بداية الأمر ضباط بعثي، شارك في الانقلاب، وهو منذر توفيق الونداوي، سفير صدام في ما بعد. إلى جانب هذه الميليشيات هناك الميليشيا المحدودة العدد التي عُرفت بجماعة الخالصي، وهم مسلحون يأتمرون بأمر الشيخ محمد مهدي الخالصي (ت 1963) بمدينة الكاظمية، لكنها استخدمت العنف وأعانت ميليشا الحرس القومي ثم اختلفا وألغيت بإلغائه.
وبعد حين ظهرت ميليشيا "الجيش الشعبي" البعثية، السنة 1975، وفقاً لمرسوم من مجلس قيادة الثورة. وتشكلت ميليشيا أخرى بقرار من المجلس نفسه، وهو على نمط كتائب سامي شوكة في الأربعينيات: "الفتوة وكتائب الشباب"، وانضم لها طلبة الثانويات والجامعات. كانت تلك التشكيلات مقدمات لعسكرة المجتمع، وتهيئته لكوارث قادمة. ناهيك من فدائيي صدام، وجيش القدس وغيرها من المسميات.
لكن كل الميليشيات المذكورة كانت بقرارات حكومية، ما عدا جماعة الخالصي. أما الميليشيات الحالية فأمرها آخر تماماً. تشكلت منظمة بدر بإيران، كذراع عسكري للمجلس الأعلى للثورة الإسلامية. ومن هناك أخذت تقاتل النظام السابق، ورغم أنها شيعية صرفة، إلا أنها ضمت عناصر من أهل السُنَّة، من الفارين أو أسرى الحرب. ودخلت العراق بعد سقوط دولة البعث بيد الأمريكان. ثم ظهر ما يعرف بجيش المهدي، وأخذ أهل الجنوب والوسط يعانون من تجاوزاته، وكان قتل السيد مجيد الخوئي (10 أبريل 2003) أول الغيث. وبرز من قياداته شخص يدعى (أبا درع)، اتهم بارتكاب جرائم، حتى برز وكأنه النسخة الشيعية من أبي مصعب الزرقاوي. ولجماعة جيش المهدي محاكم شرعية خاصة بمدينة الثورة، على نمط المحكمة التي اكتشفت بعد الانسحاب من النجف، وخطوط استخباراتية. ومع ذلك يضم التيار الصدري، الذي يعد جيش المهدي ذراعه، عقلاء يحاولون درأ الفتنة والتأثير الإيجابي في الأحداث.
ويدرك المتأمل للتسميتين، بدر والمهدي، خطرهما مثلما هو خطر تسميات الميليشيات وحواضن الإرهاب السُنَّية غرب العراق: كتائب ثورة العشرين، ويشار إلى صلتها بهيئة علماء المسلمين، والجيش الإسلامي، ويشار إلى صلته بالحزب الإسلامي (إخوان المسلمين)، وجماعة التوحيد والجهاد، وجيش المجاهدين وغيرها. تشير تسمية "بدر"، كقوة سياسية وعسكرية، إلى وجود مشركين، بينما ورد في القرآن الكريم: "اليوم أكملت لكم دينكم ... الآية". وتشير تسمية "المهدي"، كقوة مسلحة، إلى ما ليس من اختصاص أحد غير الإمام عند الظهور.
إن وجود هاتين الميليشيتين، وما يشابهها في الجنوب، يحسبه البعض مبرراً لتنشيط حواضن الإرهاب في الغرب، كخط دفاع في حمأة التحرش الطائفي. غير أن كلاً من الحواضن السُنَّية والميليشيات الشيعية مسؤولة عن التهجير الطائفي، وإيذاء الوحدة العراقية. لذا لا يمكن للمصالحة الوطنية أن تستقيم بلا حلها، ومنع مظاهر التسلح غير الرسمية، وردم كهوف الإرهاب. هذا إذا أراد القائمون على الميليشيات والقابضون على مفاتيح بوابات الحواضن استقرار البلاد، ونبذ الإرهاب.