عراقيون أولا..
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
الخميس: 2006.07.27
رشيد الخيون
تحت ظل لافتة "عراقيون أولاً"، التي خطها محمد سعيد الصكار، وريث الخطاطين ابن مُقلَة وابن البواب، تداول بالعاصمة الأردنية (15 ـ 21 يوليو/ تموز 2006) كُتاب وأدباء وفنانون واقتصاديون أمور بلادهم. وربما لأول مرة يلتقي مثل هذا الجمع المتباين في اتجاهاته وتصوراته، بداية من المتحمسين ضد الأمريكان، بخلفيات ثورية، إلى الغارقين بحلم عراق جديد بمعونة أمريكية، تيمناً باليابان وكوريا الجنوبية، اللتين فتح لهما الاحتلال آفاق التقدم.
أول مرة يلتقي مَنْ لا يدخر شتيمة إلا وجهها ضد الحكومة العراقية، بأقطاب الحكومة نفسها. ومَنْ خبرَ ما كان يجري بين المعارضة والحكومة، من عداوة وكيد، لا يتأخر في اعتبار مثل هذا اللقاء انقلاباً في العقل العراقي. كانت خلفية الاتهام بالتواطؤ والمؤامرة حاضرة في ذهن منظم "الأسبوع الثقافي العراقي" الإعلامي إبراهيم الزبيدي، مدير "وكالة الأخبار العراقية"، ومدير إذاعة بغداد حتى 1974. قال: "تمويل المهرجان على حسابي الشخصي، وأنا قادر على ذلك، وأنا مستعد لمَنْ يريد كشف حساباتي".
كانت كلمتا وزارتي الثقافة العراقية والأردنية واضحتين، في أن غاية الاجتماع هو التداول والمكاشفة والتقارب، وإسهام في وقف شلال الدم، وقمع عفريت الطائفية المنفلت من قمقمه. وأن الأردن ممثل بشخص وزير ثقافته ليس من مصلحته سوى رؤية العراقيين متضامنين، وما حدث لفنادقها في نوفمبر الماضي جعلها لا تجد مقولة "مصائب قوم عند قوم فوائد" صحيحة في تعاملها مع الحالة العراقية.
شغلت أصوات التلفونات الجوالة، بين أغنية ومرثية، القادمين من بغداد. سمعت أحدهم يوصي بالحذر بعد إخباره بانفجار قرب المنزل. وعبر الجوال كان رئيس تحرير جريدة "الصباح الجديد" يتفاوض مع مختطفي أخيه، طلبوا مليون دولار، وبعد لحظات نزل المبلغ إلى النصف. ثم صعد ثانية، وقد أخذ يتثاقل من كثرة استفساراتنا: مَنْ الخاطف؟ سلوى زكو كاتبة وصحافية تقرر البقاء بعمان، لأنها لا تستطيع فعل شيء هناك. تظهر مقالتها أو افتتاحية جريدتها باهتة، عليها أن تزن كل كلمة بميزان الذهب، هكذا يجب أن تكون دقيقة، وإلا وصلتها الرصاصة داخل ظرف. ومن فزع قررت الأديبة لطفية الدليمي البقاء بعمان، ومنها تحاول سد ثغرات الدستور العراقي تجاه الثقافة والأحوال الشخصية.
كانت الطائفية محور المحاور، والكل أتفق على نبذها، بين نافٍ لتاريخيتها ووجودها قبل الاحتلال، وبين واثق من وجودها منذ العصر الأموي. وما كان من الكاتب خالد القشطيني إلا اقتراح إهمال التاريخ، والتعلم من الأوربيين فن المعاصرة. إلا أنه بعد ساعات جاء يسألني عن أصل مسألة ما زالت خلافية بين الشيعة والسُنَّة.
محمد جواد الغبان، شاعر وباحث نجفي منذ الأربعينيات، فكر بالبقاء أيضاً، مع شيخوخته وعوزه ومرضه، وكان قريباً من مرجعيات دينية بداية من أبي الحسن الأصفهاني (ت 1946)، والإمام محمد حسين كاشف الغطاء (ت 1954) وحتى المرجع الحالي آية الله علي السيستاني. ألقى قصيدة في افتتاح الأسبوع تحت عنوان "سيدي العراق". منها: "كذبت طائفية مزقتنا.. فهي يا أخوة المصير اختلاق". لكني أجده يتحايل على واقع الحال بشعر، أو بتصريح حول مكتبته العامرة، وقد تعمد أن يضع فيها "صحيح البخاري" ملاصقاً لتهذيب واستبصار الطوسي، أو يستشهد بمجلسه الأدبي المغلق، وكان يضم علي الوردي وجلال الحنفي. تشاءم الغبان كثيراً من قتل خباز محلته، معتبره من أمَارات القحط.
تشاكل الأحوال بالعراق مثلما رواها لنا شفيق المهدي، مدير مسرح الطفل وهو شاهد عيان: "ربما أنا الشيعي يأتيني ظرف فيه طلقة من إمام شيعي، وربما أنا السُنَّي يأتيني ظرف فيه طلقة من إمام سُنَّي". هذا ما تفعله الجماعات المسلحة. أما الرعية "فعند التهجير يعطى السُنَّي بيته للشيعي، ويحمى الشيعي بيت جاره السُنَّي المهجر". وبعداً عن الظنون، قال:"أنا المهدي المضطهد وليس المهدي المنتظر"! قرأت على حائط سجن المخابرات، وحيطان سجن أبو غْرَيب أسماء: العزاوي، والمحمداوي، والحسيني، وجرجيس، وشيرزاد. لم تميز تلك الحيطان، ولا مشنقة الإعدام بين الطوائف. ووصل الانحطاط حداً أن يعطي المعدوم الجلاد رشوة حتى تحفظ كرامته بعد موته، أي لا يسحل على الأرض كالشاة"! كانت هذه الخلفية المفزعة مادة عضو البرلمان ورئيس تحرير جريدة "الاتحاد" فرياد راوندوزي في تعقيبه على مَنْ يحاول تناسي الفاجعة، التي أدمت العراق لعقود، ويلصق كل شيء بالاحتلال.
مشكلة العراق، برأي برلماني بح صوته، وكلَ قلمه في مواجهة نظام المحاصصة، لا في الشيعة والسُنَّة، ولا الاحتلال كل المشكلة، حتى يعد خروجه عصا موسى، المشكلة "هي النُخب السياسية. لقد بررت جبهة التوافق (السُنَّية) رفضها ترشيح أياد علاوي لمنصب نائب رئيس الجمهورية بالقول: أصبح الموضوع سُنَّة وشيعة. كذلك رفضوا ترشيح عدنان الباجه جي بقولهم: إنه مستشيع"! ومعلوم ليس أكثر من التوافق حديثاً ضد الطائفية! كان الحضور متفقون تمام الاتفاق على نبذ الطائفية وتقسيم ثروات العراق حسب المحاصصة، لأسافل الفراتين النفط ولأعاليهما الماء. وبالتالي ينتفخ أمراء الطوائف، ولا نفط يضيء الشيعة ولا ماء يروي السُنَّة.
لم يرتح زميل من أهل السُنَّة، على هامش جلسات المؤتمر، مما وصفها بخيلاء صالح المطلك، وقد وقف خطيباً يوصي المثقفين، كمسؤول، أن يكتبوا في جرائدهم (الحقيقة)، ثم تجول في قاعة الحفل تحف به مجموعة من الحراس أو المعجبين. ومن أجل الموازنة، وتأثراً بالمحاصصة ووقعها في النفوس، بادر زميل شيعي إلى تشبيهها بما عبر عنه بخيلاء إبراهيم الجعفري، وطريقة خطابه ووصاياه للبرلمانيين، وما تحفه من حراسة. ومع الامتعاض من حضور جرثومة المحاصصة في مجاملاتنا، لكنني وجدتها عافية أن يعاكس كلامنا رغائب السياسيين بلا هاجس طائفي.. "عراقيون أولاً".
وفي الأمسية الشعرية، التي أقيمت بعد منتصف الليل، تعكز شاب نحيل على عكازتين صوب المنصة، يشبه طائراً من طيور الأهوار متوكأً على القصب. قدم إلى عَمان طلباً لعلاج ساقيه، ولما وشلت ذخيرته أخذ يبحث عن معين ولا مجيب. قدمَ نفسه أنه الشاعر حيدر عبد الخضر. وقد حزن من التقصير في تقديمه. بينما يكفيه قوله: "أنا سادن النهرين.. مَنْ مثلي توضأ بالسحاب". كان يراقب جلسات المؤتمر، بسكوت مطبق. أحسبه يقول: آه، لو تدرون ما حجم الخراب في الناس والمدن! أسمعتم في كل أزمنة القسوة أن رجلاً شق بطنه وحشر فيه رأس ابنه؟