جريدة الجرائد

الهوية القاتلة للأمة

قراؤنا من مستخدمي تويتر
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك



منح الصلح


قبل عهد المذاهب الذي نعيش فيه الآن والذي كادت هذه أن تكون فيه كل شيء، عُرفت منطقة الشرق الأوسط بأنها منطقة الأديان السماوية منها خرجت اليهودية والمسيحية والإسلام. المسلمون فيها هم الغالبون عددياً ولكن كل من اليهودية والمسيحية نظر إليها دائماً على أنها أرضه المقدسة ولم يعترض المسلمون على هذه الدعوى، بل تعايشوا معها على مر السنين ولئن كان محمد عندهم خاتم النبيين إلا انه دعا أتباعه دائماً إلى احترام الرسالتين السابقتين.
إن نظرة منا إلى ما حولنا ترينا في كل مكان تقريباً استفحال ظاهرة المذهبية حتى على حساب الدين الواحد حيناً والهوية الوطنية الواحدة حيناً آخر حتى ليصبح القول: "قل لي أي مذهب تعتنق أقل لك ماذا تفكر لا في شؤون الدين فحسب، بل في شؤون الدنيا". وكأن الرابطة الأضيق (أي المذهبية) تعلو كلمتها أكثر فأكثر على الروابط الأوسع على نحو لم تعرفه المنطقة في زمن من الأزمان.

والملاحظ ان هذه الظاهرة أكثر ما تطغى في بلاد الهلال الخصيب على وجه الخصوص رغم ابتلائه بواقع الاغتصاب الصهيوني العنصري والديني على حد سواء. وكأننا نعيش كعرب مرحلة زمنية تكاد فيها المذهبية تفوق في حدتها الالتزام بأساس القضية الفلسطينية الأم وبواقعي الإسلام والمسيحية معاً.

واهمٌ رجلٌ كأنطون سعادة على سبيل المثال إذ ظن في يوم من الأيام أن منطقة الهلال الخصيب أي فلسطين ولبنان وسوريا والعراق مهيأة بسبب جغرافيتها وتكوينها التاريخي أن تكون الأمنع ضد نوازع التفرقة المذهبية والعنصرية فنادى بها دون سواها في أرض العروبة وطناً تاماً لشعب واحد مستغنياً بها عن سائر بلدان العرب المعرضة في تقديره المتشائم لأن تتفتت بأسرع مما يمكن لبلاد الهلال الخصيب أن تواجه.

إن العكس، ويا للمفاجأة، هو الذي يقع فبلاد الهلال الخصيب لا تفقد بعض فلسطين وحسب بالاحتلال الإسرائيلي وإنما تتعرض كل أطرافها الأخرى أي العراق ولبنان وسورية وربما غيرها أيضاً لرياح السموم.

أما مصدر هذه الرياح فهو العصبيات على أنواعها في جهوية المناطق إلى عنفوان الأجناس والأنساب وخاصة صدامية المذاهب المتشاحنة في الدين الواحد الذي تفوق أحياناً في توترها جفوة التباعد بين دين ودين.

فلو قيست الحدة التي عرفتها هذه المنطقة في الحروب الصليبية بين العرب والفرنجة لوجدناها أقل شراسة بكثير وأقل تكاليف في بعض ما ذاق تاريخ الشرق ويذوق من صدام العصبيات المذهبية في المنطقة وداخل الدين الواحد احياناً.

لا نقول ان العرب وحدهم تعرضوا لمثل هذه التجربة، فالحرب الأهلية التي وقعت في تاريخ أوروبا بين الكاثوليك والبروتستانت في بعض أرقى شعوب العالم هو الشعب الفرنسي كانت ولاتزال حالة مذهلة للعقل البشري يدرسها المؤرخون حتى الآن، يتمعنون في دروسها مشدوهين ذلك أن تلك الحرب قد أسفرت في زمنها عن هجرة بروتستانتينية واسعة إلى ألمانيا سرعان ما تبعتها نهضة ألمانية فاقت كل تصور، فإلى ذلك الزمن يعيد المؤرخون الثقات تغير ميزان القوى بين الدولتين لصالح الجبروت البشري الألماني المتغذي بفاعلية العنصر البروتستانتي الفرنسي المهاجر إلى وطنه الجديد. ولطالما اتخذت هذه الواقعة مثالاً على الثقل الذي تنطوي عليه هوية تشعر أنها مظلومة وتقرر بأي وسيلة قلب المعادلات رأساً على عقب وما أسرع أن تجد نفسها في احدى حالتين إما غالب أو مغلوب أو وضع كل من فيه مغلوب وهذا ما يقع في الأكثر ما دام النموذج البروتستانتي الألماني الفرنسي سابقاً ليس الحالة الراجحة المضمونة عند كل المقارنات!

هل يعيش إذا عرب هذه الأيام عصر الأمة القلقة أم هو نضج في الأمة مؤهل لأن يوجههم إلى درس واقع أقدامها المنغرسة مع الأسف في وحل المذهبيات والعصبيات المتفاقمة في واحد في أرقى وأعز البلدان العربية.

ليس العراق وحده من يعاني وإن كان هو اليوم بلاشك أبرز المعانين بعد فلسطين حتى ليتكشف للقاصي والداني أن الموضوع قد تجاوز إدانة من كان حاكماً بالأمس إلى تشاؤم بضياع الفرصة أمام كل من يحكم الآن أو من يحكم في الغد.

لقد أحبطت ظاهرة المذهبية كما ظاهرة الجهوية في بلداننا العربية وتحبط الآمال المعلقة على ثورات وانتفاضات استقبلتها الشعوب بالطبل والزمر فإذا البلدان والعواصم التاريخية المتألقة اسماؤها بوهج الحضارة والمجد تصبح مع الزمن مرادفة لنزوات العصبيات الضيقة والآمال المحجمة.

كل ذلك أفادت منه مع الأسف القوى الدولية المعادية لشعوبنا ليشتد الخناق على دول ومجتمعات كانت مؤهلة للتطور واللحاق بالغير وإسقاط الحجج المسمومة التي دأبت إسرائيل وقوى الظلم على تقديمها ضد كل حلم عربي أو حق عربي.

غير أنه لابد من القول إنه بقدر ما تعمل المذهبية على تخريب المسيرة العربية وعرقلة تطلع الدول والمجتمعات في منطقتنا فإن وهج القضية الفلسطينية بالمقابل يبقى واعداً بالقدرة على تنظيف أي جرثومة داخل الهوية الفلسطينية فأنت لا تزال على أرض فلسطين نفسها فلسطيني بالكامل أكنت مسلماً أو مسيحياً أو شركسياً أو بشناقياً أو أرمنياً.

فالأيام تثبت في واقع ما يجري في فلسطين أنه ليس في الهويات العربية أقوى حتى الآن من الهوية الفلسطينية تستعصي فتستقوي على كل هوية ثانية تزاحمها أو ترافقها في الشخص الواحد لا تشوبها من ذلك شائبة. فالفلسطينية قوية على كل ما عداها وكأن الجامع مع الانتماء إلى فلسطين قدرة الفلسطينية على تذويب ما عداها من أوصاف.

لكأن الفلسطينية تزايد بذلك كله في موقع أشد تجذراً بأرض فلسطين على كل يهودي آت إليها من أقصى العالم ليدعي ما ليس حقه.فالفلسطيني يكلف نفسه لا بسبق العربي الآخر إلى العروبة بل أيضاً بسبب كل ملتحق غريب بفلسطين في أرومة اليهودية المتصهينين.

تعترف الفلسطينية من خلال رابطة العروبة ومن خلال الإسلام والمسيحية بالأديان السماوية الثلاثة ولعلها بشيء من النرجسية تحلم بأن تقدم للعالم ما يشبه الذاتية الخاصة المستحقة لشغف الآخرين بما يجري منها.

ولعل أدهش ما تقدمه الساحة العربية هو هذا التناقض بين السهولة التي تقع فيها بعض بلداننا وشعوبنا في المذهبية أكان ذلك في العراق أو في لبنان أو غيرهما من الدول، وكأنها وسيلة المرحلة الأكثر شيوعاً والأكثر فتكاً وأحياناً الطريق الأقصر إلى المغانم، بينما الساحة الفلسطينية بالمقابل تقدم المشهد المعاكس رغم كل المؤامرات ومحاولات الاختراق لتقدم المناعة المطلقة بوجه أي فئوية أو نزعة تفتيتية. ذلك أن الدينين الإسلام والمسيحية على أرض فلسطين وفي المهاجر متحدان في رفض المذهبية الوسيلة الأقرب للمكاسب والمنافع عند غير الفلسطينيين من العرب.

فكما خلع اليهودي على أرض فلسطين كل هوية له في الأرض التي جاء منها سواء المانية أو فرنسية أو غيرها ليأتي الى فلسطين ليقول إنه يهودي فقط، كذلك الفلسطيني العربي على أرض فلسطين نجده بحماس أكبر ونقاء أتم لا يرضى بأن يتظلل براية إلا راية الفلسطينية النقية الصحيحة، بل إن الإسلامي والمسيحي على أرض فلسطين متحدان بوضوح متفقان على وضع هويتهما الفلسطينية العربية فوق كل هوية أخرى فلا طائفية ولا مذهبية.

إن المذهبية التي تعيش اعراساً وتشجيعاً و"بطولات" في بعض البلدان العربية حتى لكأنها ظاهرة المرحلة التاريخية خارج فلسطين هي نفسها في الداخل الفلسطيني المتفق على أنها المكروب الذي يجمع على رفضه كل فلسطيني مسيحياً كان أو مسلماً.

إن المذهبية خارج فلسطين وخارج القضية الفلسطينية ظاهرة واضحة في أكثر من بلد عربي، بل هي الطريق الأسهل لجباية التأييد والتفويض الداخلي والخارجي لكل عربي يطلب السلطة والنعمة على أنواعها. أما داخل فلسطين وداخل الفلسطينية، فماضيا وحاضرا ومستقبلا لا بديل عن الفلسطينية سواء للمسلم أو المسيحي، إن الإسرائيلي موجود على أرض فلسطين فلانه فلسطيني بالهوية والخيار معاً. بل إن المذهبية هي له نوع من الانتحار. إن كل الفلسطينية ضرورية لربح المعركة، بل لمجرد اعلانا لذلك فإن الإسلام والمسيحية داخل فلسطين تعنيان أولاً وآخرا المعنى نفسه، إن هذه الأرض لي، والمذهبية لا يمكن أن تفتعل إلا لاخراجه من قضيته.

وإذا كان العراقي أو السوري أو اللبناني يجد لسبب أو آخر أن المذهبية تزيد من حصته في الحكم أو السياسة أو المال، فإن المذهبية لا تعني شيئاً للفلسطيني، لأن الآخر هو عنده أصلاً خارج دين كل عربي، والمذهبية لا مكان لها ما دام طريقه هو إلى فلسطين.

إن القضية الفلسطينية تحتاج من أبنائها أن يكونوا فلسطينيين وأن يكونوا عرباً أو يكونوا مسلمين أو مسيحيين بكامل الإسلام والمسيحية. اما أن يكون مذهبياً أو داعياً إلى مذهب فهذا ما يتناقض مع قوة قضيته.من هنا كانت المذهبية منذ اليوم الأول بضاعة غير مرغوبة بل ممنوعة عند الفلسطينيين بل كل الفلسطينيين وباختصار لا مصلحة للفلسطيني بغير هويته الفلسطينية الخاصة لكل الإسلام ولكل المسيحية، بل لكل العلمانية أيضاً.ولا حاجة له لغير فلسطينيته وعروبته، ولا حاجة لهم للمذهبية لا من قريب ولا من بعيد.

لقد تم مجيء حماس الى السلطة بقوة إصرار المسلمين والمسيحيين على فتح صفحة جديدة تحمل عزيمة جماعية موحدة للوقوف بوجه اليهودية الطامعة. فمنذ ولدت الصهيونية في صيغتها الحديثة من رحم اليهودية التاريخية ومعها مخطط لإقامة دولة لها على أرض فلسطين نشطت بكل الوسائل لهدف واحد تصوير نفسها لكل من الدينين الإسلامي والمسيحي بأن اليهودية أقرب إليه منها للآخر. في الأندلس ادعت اليهودية أنها أقرب إلى الإسلام من المسيحية و بعد ذلك في عصر متأخر حاولت أن تظهر نفسها وكأنها النجم الاضافي غير المعلن لنجوم علم الولايات المتحدة الأميركية كان تنظيرها على أن الأديان السماوية ثلاثة اليهودية والمسيحية والإسلام والأولان أقرب الواحد منهما للثاني منه للثالث. لكن المسيحية العربية رفضت على بعض السنة أساقفها الكبار منهم أقباط مصريون و خريجون موارنة من مدرسة روما المارونية الشهيرة وأساقفة جاليون في القدس العربية. هذا التنظير اليهودي الملفق على حساب الدينين المسيحي والإسلامي على حد سواء، وآخر صوت عربي كاشف للتزوير الصهيوني المركب، كان صوت المطران الكاثوليكي اللبناني غيرغوار حداد الذي قال إن المسيح فاصل حاسم في تاريخ البشرية والمسيحية ثورة روحية جاءت ضد من كان قبلها أي اليهودية، وكل من جاء بعدها فيه شيء منها وعلى هذا فإن الإسلام والمسيحية هما الأقرب واحدهما إلى الآخر بعكس ما تروج أوساط استعمارية مغرضة في أميركا وغير أميركا.

لسوء حظ العرب مسيحيين ومسلمين على حد سواء ان ربان السفينة بين اقوياء هذا العالم الجالس حالياً في البيت الأبيض وهو على صلته بأقوياء العالم العربي لا يبدو آخذاً بقراءة مسيحيي المنطقة لتاريخها، وبالتالي باقي على ولائه للانجيلية المحافظة الممسكة بالمقود حاليا في البيت الأبيض والمنغلقة على ما يدور في رؤوس مسيحيي الشرق فضلاً عن مسلميه من أفكار من شأنها أن تنفخ روحاً جديدة في العلاقة الأميركية العربية، ولكن واشنطن القادرة في رأي البعض على كل شيء لا تزال ضعيفة تنظيراً وواقعاً أمام كل ما تقذفه إليها رياح السموم الآتية من إسرائيل وأصدقائها العمليين والروحيين.

والمؤسف أن تبقى واشنطن على قربها من الأفكار الإسرائيلية كما هي رغم كل ما جرى ويجري على أرض فلسطين من تحولات أبرزها مجيء حماس الإسلامية الى السلطة بإرادة الناخب الفلسطيني المسلم والمسيحي معاً.

إن ظاهرة المذهبية كما ظاهرة الجهوية في بلداننا العربية أحبطت وتحبط الآمال المعلقة على ثورات وانتفاضات استقبلتها الشعوب بالطبل والزمر إنا البلدان والعواصم التاريخية المتألقة اسماؤها بوهج الحضارة تصبح مع الزمن مرادفة لنزوات العصبية الضيقة والآمال المجحفة.

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف