حرف بين الهوية والهاوية
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
حبر الكلام
حمدة خميس
يجري الحديث دوماً وفي كل مجال عن الهوية العربية والقومية العربية، والحفاظ عليهما خوفاً من فقدهما بسبب تروس العولمة التي تسعى بشرورها الكثيرة المتعددة إلى سحق هويات الشعوب وقوميــــاتها، وصبها في قالب واحــد سيأخذ - مراوغة - مسمى العالمية.
وحين التأمل في مضمون الهوية العربية والقومية العربية، ومراقبة حيثياتهما وأشكالهما وصورهما وتجلياتهما على صعيد الواقع ككل وعلى صعيد الفرد كجزء، لن نرى منهما سوى هذا الخوف عليهما، والندوات التي تتكاثر هنا وهناك، معنونة دوما بـ lsquo;rsquo;القومية والهوية العربية في مواجهة التحديات...rsquo;rsquo;. وعلى رغم أن هوية الفرد أصبحت معروفة كصك مدون في بطاقة، إلا أن هوية الأمة العربية وقوميتها شأنها شأن هويات الأمم الأخرى وقومياتها تكاد تختلط حد الإبهام في هذا العصر، بسبب اختلاط الحضارات والمثاقفة والهجرات التي تحمل أسبابها المتعددة. وقد أصبح الطابع العام لهويات الأمم وقومياتها متقارباً ومتداخلاً بسبب ثورات العلم والاتصالات وسهولة وسائل الانتقال ونظام السوق والسياسات الاقتصادية التي أصبحت شبه متكاملة بين دول العالم.
وإذا كانت القومية تعني lsquo;rsquo;وعي الذات العرقية والسعي في سبيل المثل العليا للعرقrsquo;rsquo;، التي جسدها هتلر بحربه العالمية الثانية باسم القومية الألمانية التي ظن واهماً أنها تسمو على جميع القوميات، فإن العرق العربي لم يعد بعد عرقاً عربياً صافياً، وهو لم يكن كذلك منذ عصر الغزوات الإسلامية، التي اصطلح على تسميتها بالفتوحات (!) التي أدت إلى اختلاط الأعراق والقوميات والثقافات والهويات. وحين نقول نحن lsquo;rsquo;عربrsquo;rsquo; نكون قد ميزنا عرقياً أنفسنا عن باقي الأعراق التي تعيش معنا في المكان والزمان نفسيهما واختلطت بنا تزاوجاً وسلالات.
وحين نريد تعريف الهوية فسوف نتذكر أن أهم عناصرها هي اللغة القومية، ثم العادات والتقاليد الاجتماعية، ثم الثقافة القومية. لكن اللغة لم تعد قومية صرفة حتى في المجتمعات الأخرى، إذ لم يجئ العلم وحده بلغته العالمية ومصطلحاتها الثابتة في كل مكان ومجتمع، بل أيضا هذا التبادل الثقافي والمعرفي والاقتصادي، وأصبح من لا يتقن هذه اللغة يقع في خانة الأمية على الأقل. وها نحن نرى اليوم أطفالنا يرضعون هذه اللغة مع زجاجة الحليب! ولم تعد هذه اللغة التي أصبحت عالمية تقتصر على المصطلحات المعرفية وحدها، بل دخلت في سياق التعبير اليومي للإنسان في كثير من المجتمعات الحديثة.
العادات والتقاليد الاجتماعية القومية هي أيضاً أصبحت نقطة في محيط من التقاليد العالمية المكتسبة التي انتشرت في كل المجتمعات البشرية تقريباً. ولم يعد اللباس القومي يخص قوماً ما فقد أصبحت دور الأزياء وموضاتها المتقلبة سيدة الاختيار.
الثقافة القومية أصبحت جمع شتات من ثقافات العالم. أما الثقافة التي بقيت قيد نمطها فسوف تسير إلى اندثارها، لأن الثقافة التي تنغلق على ذاتها هي الأكثر استعداداً للخمول والموت البطيء. بقي أن الدين لا يمكن أن يشكل عنصراً في أية هوية وقومية، ذلك أن الأديان ملك للبشرية جمعاء، ويمكن لفرد أو جماعة من قومية ما أن تعتنق ديناً لقومية أخرى.
أما نمط النظم السياسية فإنها أيضا لا تشكل عنصراً في الهوية حتى تلك التي اتسمت بالشمولية الراسخة، فقد اهتزت مفاهيم العالم السياسية تحت ارتفاع صوت الديموقراطية كنظام للتعددية والحريات.
إذاً، ما هي هذه الهوية والقومية التي لم نعد نعرفها؟
إن العصر الحديث وانبثاق الهوية العالمية سيذيب كالأسيد جميع الهويات في كيميائه. ومن الوهم والتمويه على الذات أن نتحدث إلا كتراث أو فلكلور، عن أية هوية قومية في الألفية الثالثة. ولكن قبل هذا علينا أن ندرك أن مفهوم الهوية العالمية ليس نتاج الشيطان (أميركا) وحدها كما يحلو لكثيرين اتخاذها مشجباً للنكوص، بل نتاج التطورات العلمية والحراك الإنساني على مدى العصور الحديثة، وليست أميركا ذاتها سوى جمع من قوميات العالم، بدأت بالغزاة ولم تنته بالحالمين بالهجرة إليها.
إن الهوية التي لا تستجيب للغة العصر ولا تقبل متغيراته ولا تتفاعل معه وتتبادل، إلا بلغة تعارض وعدائية ستبقى رهينة شرنقتها وأصوليتها، وسوف يصبح الفرق حينئذ بين الهوية والهاوية مجرد حرف.
لذا فعوضاً عن البكاء واللطم على الهوية القومية الآيلة إلى الانقراض، التعمق في إدراك معانيها والحفاظ على مرونتها وإخصاب روحها، وإكسابها قابلية التحولات الحتمية التي تجتاح هذا الكوكب.