التعدِّي على الدولة عند بن لادن وحسن نصر الله
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
جمال خاشقجي
بعد الانسحاب السوفييتي من أفغانستان في خريف 1989، بدا للمجاهدين العرب أن مهمتهم هناك توشك على الانتهاء، فما هي إلا أسابيع أو أشهر قليلة وينهار النظام الشيوعي في كابول، وتقام "الدولة الإسلامية" الحقة التي ستكون نواة لتحول يغير مسيرة التاريخ. لم يحصل شيء من ذلك بالطبع، ولكنني كنت أيامها في بيشاور منتشياً بتلك الأجواء المتفائلة، وأسجل مشاعر وملامح النصر والتحول الآتي. طلبني أسامة بن لادن إلى مجلسه الخاص، وكنت مقيماً يومها في بيته، والذي كان عدة بيوت متداخلة، فكانت كالأجنحة، بعضها عائلي له، وأخرى مكاتب، بالإضافة إلى مجلس يستقبل فيه ضيوفه و"مجاهديه"، وجناح بمثابة بيت ضيافة لخاصة الضيوف.
مضيت أمشي خلف "المرسول" في انسيابات طويلة، تلتف حول عدة مبانٍ فتح بعضها على بعض، بدت كالإدارات الحكومية المستأجرة والتي قد تكون بنيت كسكن خاص ثم تحولت إلى مكاتب. وربما كان في ذهن من وزع الأجنحة في ذلك المجمع الصغير بُعدٌ أمني، فالانسيابات تشكل متاهة تحمي من المداهمات أو السيارات المفخخة، فاستخبارات الحكومة الأفغانية "الخاد"، وغيرها كانت نشطة في بيشاور اغتيالاً وتفجيراً خلال تلك الحقبة.
انتهيت إلى غرفة مكشوفة كأنها صحن صغير في الدور الأعلى بها أصيصات زرْع في بعض أركانها. كان الوقت ضحىً، والطقس معتدلاً. بدا أسامة مبتسماً حبوراً وهو يرحب بي. أجلسني بجواره وقدمني إلى عدد من الشباب العرب، كالمعتاد بكنياتهم، ولكن تميزوا بأن كانوا جميعاً "حضارمة"، قال إنهم وصلوا صباح اليوم من الجبهة، ويعني ذلك أنهم قدموا من أفغانستان. والتفت إليَّ ورسم على وجهه تلك الابتسامة الغامضة التي اشتهر بها ورآها كل من راقب بتمعن مقابلاته الصحفية عندما يُسأل عما سيفعل في المستقبل حيال كذا أو كذا، فيرسم ابتسامته الواثقة ويقول شيئاً من نوع: "القول هو ما سترون وليس ما تسمعون". قال لي أسامة: "هؤلاء هم الزرق"!
شرح لي أن الزرق هم فرقة من المجاهدين العرب تقتصر فقط على "الحضارمة" واليمنيين في هذه المرحلة، يعدون وقتها تدريباً وتأهيلاً وتنظيماً ليكونوا نواة لجهاد شامل يقتلع النظام الماركسي الذي حكم جنوب اليمن منذ استقلاله عن بريطانيا. ولمن نسي فلقد كانت هناك دولة عربية اسمها "جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية" عاشت من عام 67 إلى 90 عندما حُلت بعدما توحد اليمنان في الجمهورية اليمنية الحالية. وقد مارس "الرفقاء" في اليمن الجنوبي كل سيئات وموبقات الشيوعية من إهدار للحريات وتنكيل بالخصوم وإهانة للدين، مع سوء إدارة، واقتصاد أفقر البلاد، وفي النهاية احتربوا فيما بينهم، فبدا جنوب اليمن ضعيفاً متضعضعاً، ينتظر مخلِّصاً، واعتقد أسامة أنه ذلك المخلص.
سألت أسامة عن مسمى "الزرق" الذي اختاره لتلك "الطليعة المقاتلة"، إن صح التعبير، ولكن تاهت إجابته من أوراقي وذاكرتي. ولعل بعض الأصدقاء ممن عاش تلك التجربة يكتب للصحيفة ويشرح لنا معنى "الزرق". ولكن أذكر إجابة أسامة على سؤالي التالي: وهل الدولة عندنا موافقة على هذا المشروع؟ إذ لا يمكن أن تمضي خطة ثورية كهذه بدون الدعم السياسي واللوجستي من المملكة العربية السعودية. رد أسامة برسم تلك الابتسامة الشهيرة الغامضة الصامتة، فحسبت أن الإجابة: نعم.
مضت الأيام وأنا أتململ من حمل هذا السبق الصحفي الذي يستحق أن يكون مانشيتاً رئيساً في الصفحة الأولى من الصحيفة التي كنت أراسلها وقتذاك. ولكن لم أفعل فمصدري "أسامة" لا يريد النشر الآن، وعليَّ أن أصبر حتى الوقت المناسب. تكررت لقاءاتي به بعد ذلك في جدة، وتحديداً بمنزله المتواضع المتفرع من شارع المكرونة بجدة، والذي لا يليق بمليونير ولكنه مناسب لأسامة وطبيعته، فهو منذ نشأته يتعبد في زهد بحياة التقشف.
أصبح المنزل أو مكاتب أسامة في الدور الأول خلية نحل، قل عدد الزوار الأفغان بعمائمهم وشالهم "البتو" العريض الذي يستخدم لكل شيء من سجادة للصلاة إلى غطاء للنوم، وحل مكانهم زوار يمنيون، شيوخ قبائل ووجهاء، بعصابتهم الملونة، وأحزمتهم التي تفتقد "الجنبية" التي لم يعد من اللائق حملها في الأماكن العامة في السعودية. حتى أسامة نفسه استعاد خلال تلك الفترة لهجة الأجداد، ويجلس القرفصاء وقد أحاط وسطه وساقيه بكمر عدني ملون، وأمامه خرائط مفصلة لجنوب اليمن وقصاصات صحف، وقوائم بأسماء القبائل والشخصيات السياسية، وتفاصيل عن الجيش هناك، وغير ذلك من المعلومات التي لابد منها قبل القيام بمشروع جهادي كبير يقضي بتغيير نظام حكم في بلد كامل عن طريق القوة. كان الحديث عن ملايين توزع يومياً على هؤلاء الضيوف لشراء ولائهم استعداداً لليوم الكبير.
وسرت إشاعة في الأوساط المحيطة به أنه قد يكون مستهدفاً من استخبارات جنوب اليمن، فنصبت أسلاك شائكة في أعلى سور المنزل، وجلس حارس غير مسلح أو هكذا بدا أمام الباب، يضبط أمر الداخلين، فلا يدخل أحد الدار إلا بإذنه، حتى أن تدريبات (بدون أسلحة) كانت تجرى في مزرعته في الجموم وهي منطقة بين جدة ومكة المكرمة، تنتشر فيها المزارع، وكان الانطباع لديَّ أن الدولة لابد أنها على علم بالأمر وموافِقة على مشروع خطير كهذا. وفجأة انتهى كل شيء، أزيلت الأسلاك الشائكة من على السور، توقف سيل الزوار، واختفى الحارس من على الباب الذي أغلق، وقلَّ ظهور أسامة، ولم يعد الاتصال به سهلاً حتى لأصدقائه. استنتجتُ أن الحكومة غيَّرت رأيها، وأوقفت مشروع "الجهاد" في اليمن الجنوبي.
عرفتُ لاحقاً أن الحقيقة غير ذلك، وسمعت الجزء الآخر من القصة من سمو الأمير تركي الفيصل السفير في واشنطن حالياً ورئيس الاستخبارات العامة سابقاً. كان أسامة وأنشطته محل المتابعة، فاستدعى أسامه يسأله عما يفعل؟ فعرض عليه مشروعه بتغيير نظام الحكم الماركسي، والذي طالما كان شوكة في خاصرة المملكة ومصدر تهديد استراتيجي، بل إن المملكة خاضت حرباً قصيرة يوماً ما مع اليمن الجنوبي. وشرح أسامة كيف أن الفرصة سانحة، وأن النظام ضعيف، وكان رد الأمير بسيطاً ومختصراً، أن ما يفعله فكرة سيئة، تعرض مصالح المملكة للخطر، وأن الدولة هي التي تقرر وحدها أموراً خطيرة كهذه.
كان أسامة وقتها قريباً من الدولة، يلتقي ببعض المسؤولين مثل غيره من الوجهاء والشيوخ، وبحكم وضع عائلته المتميز والخدمات التي بذلها في أفغانستان، ولكنه هذه المرة تجاوز "الدولة" فاتخذ القرار الذي غيَّره وغيَّر عليه. لم يؤمر بوقف مشروعه "الجهادي" في اليمن فقط، بل سُحب جواز سفره، ومنع من الخطابة في المساجد، ومن الواضح اليوم أن هذه القرارات الحاسمة لم تعجب "أمير المجاهدين" في أفغانستان فكتمها في نفسه، إلى أن حصل ما حصل.. وبقية القصة معروفة.
ربما كان مشروع قلب نظام الحكم في اليمن الجنوبي بحركة "جهادية" فرصة للمملكة، تمتد بها إلى جنوب الجزيرة العربية ومنها إلى بحر العرب. وربما كان كارثة تؤدي إلى فتنة وحرب أهلية في الجنوب، أو تجر المملكة واليمن الشمالي الذي كانت له طموحاته في الجنوب إلى مواجهة. كل هذه الاحتمالات يضعها رجل الدولة أمامه، فيقلِّبها، ليغلِّب ما يراه للصالح العام، بعد أن يستشير، ويأخذ في الاعتبار الظروف الإقليمية والدولية. ولكن لا يقدم على أمر كهذا فرد أو حزب مهما صفت نيته، واشتدت عزيمته، منفرداً عن الدولة والجماعة. فقد تتعدد في الدولة الواحدة أنظمة الحكم المحلي، أو الضرائب، أو التعليم، ولكن لا تتعدد فيها السياسة الخارجية.
لماذا هذه القصة الطويلة والتي كان يمكن أن تكون أطول عن خطأ أسامة الاستراتيجي الذي أحرق به بعضاً من سفنه مع أهله وحكومته، وأحرق البقية في قصة أخرى ليس هذا مكانها؟ إنها محاولة أخرى لشرح: لماذا كان خطف الجنديين الإسرائيليين في جنوب لبنان في يوليو الماضي خطأً؟ لأنه تعدٍّ على "الدولة" القائمة. وقد قال الإمام علي رضي الله عنه لمن قال: "لا حكم إلا لله" إنه "لابد من أمير بر أو فاجر"، والأمير في لبنان اليوم، يا سماحة السيد اسمه فؤاد السنيورة، إلى أن تجري انتخابات أخرى، أو تحجب عنه الثقة.