جريدة الجرائد

الفقر كمضاد للديمقراطية

قرائنا من مستخدمي تلغرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك



د. حسن مدن


حوالي نصف سكان الهند ما زالوا أميين، ومع ذلك ففي الهند اليوم أكثر من ثلاثة آلاف صحيفة يومية، ونحو من عشرة آلاف مجلة أسبوعية، وقد ارتفع توزيع صحافتها اليومية من 3،6 مليون نسخة في عام 1958 إلى 29،9 مليون نسخة في عام 1993.

هذه إحصاءات يقدمها الدكتور جورج طرابيشي في إطار حديثه عن مناعة الديمقراطية في الهند، متخذا من تطور الصحافة وقوة نفوذها واتساع تأثيرها دليلا من أدلة هذه المناعة، في نطاق عرضه لكتاب حول الديمقراطية في الهند، ملاحظاً أنها أكبر ديمقراطية في العالم، حتى بالمقارنة مع الولايات المتحدة الأمريكية، حيث تزيد الهند بالحجم السكاني ثلاثة أضعاف ونصف الضعف على عدد سكان الولايات المتحدة.

ديمقراطية الهند هي النموذج الوحيد الثابت في البلدان النامية، رغم أن العديد من هذه البلدان شهدت تجارب متفرقة من الممارسة الديمقراطية، لكنها غالبا ما تكون عابرة ومتقطعة وعرضة للتقلبات. أما ديمقراطية الهند فقد ظلت مستمرة من دون انقطاع منذ عام،1947 عام استقلال الهند، بل ربما قبل ذلك بكثير، إذا ما اعتبرنا عام 1920 الذي شهدت فيه الهند انتخاباتها العامة الأولى في ظل الاحتلال البريطاني تاريخ بداية لهذه الممارسة.

لكن ما يلفت النظر في نطاق الحديث عن معوقات الديمقراطية في الهند، هو ذلك الإلحاح الذي يظهره المؤلف، بين عوامل عدة، على عامل الفقر، ذلك بأن ما نسبته 38% من سكان الهند يعيشون تحت عتبة خط الفقر، وإذا أخذنا بعين الاعتبار أن آفة الأمية تختار ضحاياها من بين الفقراء بالدرجة الأولى، فإن العقبة تغدو مزدوجة. هذه الملاحظة تذكر بملاحظة مشابهة عن معوقات الديمقراطية في أمريكا اللاتينية، فرغم انه لم تعد تحوم شكوك حول مستقبل الديمقراطية في هذه القارة، إلا أن هذه الديمقراطية تعاني من أمراض عدة بينها إخفاقها في الجمع بين حقوق المواطنة ومنطق السوق، حيث تزداد حدة التفاوتات الطبقية والاجتماعية، وخلافا لما جرى في أوروبا، حيث تقدمت الديمقراطية بتقدم الطبقة الوسطى، فإن التحول الديمقراطي في أمريكا اللاتينية ابتداء من الثمانينات اقترن بتعميم متزايد للفقر، وبتقلص حجم الفئات الوسطى.

هذا الإلحاح على الفقر بوصفه مضادا للديمقراطية أمر يعنينا في عالمنا العربي كذلك. فللديمقراطية وجهان، أحدهما سياسي يتصل بالحريات وبالمشاركة السياسية وبفعالية مؤسسات المجتمع المدني، وآخر لا يقل أهمية: اجتماعي يتصل بضمان العدالة الاجتماعية والتوزيع المتوازن للثروات، والنهوض بمستوى الشرائح الاجتماعية المعدمة ومحدودة الدخل، وتأمين ضمانات العيش الحر الكريم لها. ولن تمضي عملية التحول الديمقراطي قدما في البلدان التي تنشد هذا التحول، إذا ظلت الأوضاع المعيشية لهذه الشرائح تتفاقم في التردي، وإذا استمرت مظاهر التمييز والإفقار، وسوء الخدمات الضرورية للمواطنين في مجالات السكن والعمل والضمانات الاجتماعية، وظل الاستقطاب الحاد بين الفقر والغنى، وهشاشة الفئات الوسطى ومحدودية تأثيرها، وهي الفئات التي عرفت على الدوام بصفتها مرتكزا اجتماعيا للتحول الديمقراطي في أي مجتمع.

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف