إيش لونك يا مظفر النواب..؟
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
صافيناز كاظم
كلمة من هنا وخبر من هناك، فهمت منه أن الشاعر مظفر النواب يعاني من مرض خطير، وأنه حاليا يعالج في لندن أو دمشق. إذن فقد عرفت، أخيرا، ولو بالتقريب، أين يحط مظفر النواب رحاله بعد أن ضاعت منا أخباره في الدنيا الواسعة، محروما من العراق، حتى صار بذاته عراقا كاملا مفترشا العالم، مخترقا الحدود ونقاط التفتيش مواصلا الحسم: "جرح صويحب بعطابه ما يلتم...". كان ديوان مظفر النواب "الريل وحمد" دائما أمامي، ولكني حين بحثت عنه امتلأت يداي بغبار مكتبتي ولم أجده. "مظفر النواب"، شاعر الوجع العراقي العظيم، قابلته لأول مرة عام 1969 في دمشق، ظل رحالة بين العواصم العربية ولا يمكنه العودة إلى بغداد، إلى "شريعة النواب"، المنسوبة إلى عائلته والمنسوجة في الغناء الشعبي العراقي.
في دمشق سوريا، وفي القاهرة المصرية، وفي طرابلس ليبيا، كان التقائي بمظفر النواب يأتي قدرا، وكان غناؤه المتفجع ينتشله، حين يبدأه، من لمّة الجالسين ليحلّق به وحيدا عبر أزمنة الآلام العراقية جاذبا معه نداءات الاستغاثات البشرية. غناؤه مدويا حتى الآن في أذني: "أضحك؟ إيش لون أضحك؟ أبكي؟ إيش لون أبكي؟" ينطق الضاد: ظاء، والكاف: شينا، وفقا للهجة العراقية، التي يصر بها العراقي على أن لغتنا العربية هي: "لغة الظاد"! غناء مظفر النواب مغزول من النحيب والولولة الموسيقية الغائرة كالنصل في القلب. كتلة شعر وموسيقى وغناء، كلها فنون مظفر النواب. الشعر شعره، واللحن والغناء ارتجاليات لحظية كنت أراها عرضا مسرحيا لا مثيل له.
في ديوانه "الريل وحمد"، الذي يعني "القطار وحَمَدْ"، توجد قصيدته عن شهيد من الشعب، هو كل الشعب، اسمه "صويحب"، تصغير لاسم عراقي شائع هو "صاحب"، كنت كلما التقيت بمظفر النواب أبادره بمطلعها الصارخ في الباكيات: "ميْلن لا تنجطن كحل فوج الدم! ميْلن! وردة الخزامة تنجط سم!" وهي كلمات، ما زلت أحفظها، لأم الشهيد "صويحب" التي ترفض البكاء وتقول ما معناه: "ابتعدن! لا تسقطن الكحل فوق الدم! ابتعدن! حلية الأنف الوردة تسقط السُّم"، وكان مظفر ينطلق بعد هذين البيتين بآه ملوعة حين يكمل: "حااااه! شو وسع جرحك يا صويحب..."، أي "آاااه! ما أوسع جرحك يا صويحب..." حتى يصل إلى القطع بأن: "جرح صويحب بعطابة ما يلتم..."، أي أن جرح صويحب لا يلتئم بدواء أو ضمادة! ـ ويعذرني العراقيون إذا كانت ذاكرتي قد أخطأت في كلمة مما ذكرت أو شرحت أو أسأت هجاءها لأن الديوان الذي كان أمامي قد تعمد الاختفاء!
ربما يكون مظفر النواب قد بلغ الآن السبعين أو تعداها بسنة أو سنتين، غير أنه كان دائما يبدو عمرا لا يتحدد بأيام الزمن وسنواته. حين زرت العراق لأول مرة عام 1969 علموني أن الموت عند العراقي هو: الهجرة، هو: النزوح، هو ألا يكون بالعراق يشمه ويحتضنه ويواسيه. كان العراقي إذا انتقل من حي إلى حي، في المدينة نفسها، يشكو اغترابه، أما أول ما تعلمته من غنائهم الشعبي فكان: "شي مالي والي، بو يا اسم الله، متعذبة بدنياي يا بابا، شي مالي والي... بطة وصادتني، صدقة لـ الله، بشريعة النواب يا بابا، بطة وصادتني..."، وهي أنشودة طويلة بلحن غاية في العذوبة، حملتها معي عام 1969 وعلمتها لكل أصدقائي المحبين للغناء في مصر، وكان منهم وقتها الشاعر الفلسطيني محمود درويش، الذي قال لي، بعد ذلك بسنوات عديدة، إنه كلما حضر حفلا موسيقيا عراقيا طلب منهم غناء "شي مالي والي..." التي صارت تذكره بوقته في مصر عبر ذبذبات الوجد العراقي!
وتلك الأغنية التي تعني: "كي أن ليس لدي حاميا، متعذبة في دنياي؟"، هي واحدة من أغنيتين شعبيتين عراقيتين تشعلان القلب حنينا والصدر شوقا وأنينا ـ والسجع من عندي غير مقصود ـ والأغنية التي أعنيها هي: "يا زارعا بذر الجوش، ازرع لنا حنة، وجمالنا غربت، واويلي، للشام وما جنّا....يا محبوبي جرحتني داويني، جرحك يا قلب خزّن ولا تسكينة، يا زارعا بذر الجوش، ازرع لنا حنة..." واللحن يمزق الحشايا بالشجن والشكوى أن جرح القلب قد امتلأ بالصديد ولا مواساة يمكن أن تهدئ من الألم. أليس هذا صحيح تماما، وبالنطق العراقي: "جرحك يا جلب خزّن ولا تستشينة"!
يا رحمة الله أغيثي.