لو كان حسن نصر الله أميركياً أو أوروبياً !
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
د. فيصل القاسم
لا أعتقد أن هناك أنظمة تحتقر أبطالها وتحاول تحطيمهم وشيطنتهم وتشوش على بطولاتهم مثل بعض الأنظمة العربية الحالية، فمن شدة استمرائها للخنوع والضعف والاستكانة والعجز والهوان والتبعية، يبدو أنها أصبحت تضيق ذرعاً بالأبطال، وتحاول التبرؤ منهم، كما لو كانوا رجساً من عمل الشيطان. وقد ظهر ذلك جلياً في وسائل إعلام بعض الدول العربية التي ما انفكت تنال من الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله، وتحاول إظهاره بصورة المغامر اللامسؤول، علماً أن إعلام العدو أشاد عظيم الإشادة بقدرته وقدرة مقاتليه الذين دوّخوا لواء النخبة (جولاني) في الجيش الإسرائيلي. بل إن قائد اللواء الإسرائيلي الشهير تمنى من كل قلبه لو كان مقاتلوه بربع بسالة مقاتلي المقاومة الوطنية اللبنانية وبأسهم.
لقد اعترف الإسرائيليون بعظمة لسانهم بأنهم انتصروا على النساء والأطفال والشيوخ العزّل في لبنان بتدمير المنازل والمشافي والجسور والملاجئ فوق رؤوسهم. لكنهم هـُزموا شر هزيمة على الأرض أمام مقاتلي المقاومة، وهو المعيار الحقيقي الذي تستخدمه الجيوش في قياس النصر والهزيمة. لكن بعض وسائل إعلامنا الناطقة بالعربية تصر على قلب الحقائق العسكرية بتصوير آثار القصف الإسرائيلي للمرافق المدنية اللبنانية بأنه النصر بعينه، وذلك لإفراغ انتصار المقاومة العسكري من مضمونه والانتقاص من قدر أبطالها وقادتها.
وقد وصل الأمر بهيئة الرقابة على المصنفات الفنية في إحدى الدول العربية إلى رفض مشروع فيلم سينمائي يحتفي بشخصية السيد حسن نصر الله الأمين العام لحزب الله "بحجة أن الفيلم يحرّض ضد إسرائيل ويزيد من الاحتقان الشعبي إزاءها". ألا تحتفي الأمم التي تحترم نفسها بأبطال أقل قيمة من حسن نصر الله بعشرات المرات؟ قد نتفهم منع السلطات الإسرائيلية لأغنية: "هلا يا صقر لبنان... هلا يا حسن لبنان" التي يتداولها المواطنون العرب داخل إسرائيل. لكننا نقف حائرين أمام منع بعض السلطات العربية أي احتفاء شعبي أو فني بأبطال المقاومة اللبنانية. لماذا لا نتعلم من الأمريكيين والأوروبيين أنفسهم الذين يتلقفون أي نصر يحققه مواطنوهم حتى يخلدوه ويخلدوهم؟ ليس هناك أبطال أهم من أبطال الحروب في الغرب "الحضاري".
يُعتبر "شارع وايت هول" في منطقة "ويستمنستر" بلندن من أشهر شوارع العاصمة البريطانية، فهو يحتضن مبنى وزارة الخارجية ويتصل بالشارع المحاذي لمبنى البرلمان وأيضاً بساحة "الطرف الأغر" الشهيرة. والأهم من ذلك أنه أحد عناوين سكن الملكة إليزابيث. بل هناك شيء أكثر أهمية من كل ذلك وهو أن الشارع الأشهر في بريطانيا شارع "داوننغ ستريت" الذي فيه مقر الحكومة البريطانية يتفرع من شارع "وايت هول". باختصار فإن منطقة "ويستمنستر" وما يحيط بها من شوارع تـُعتبر القلب السياسي النابض لبريطانيا. وبما أن القلب عادة هو العضو الذي يختص بالحب والكراهية، يُعز من يشاء، وينبذ من يشاء، فقد آثر قلب بريطانيا آنف الذكر(المؤسسة الحاكمة) أن يقرّب إليه أحب الشخصيات، التي، برأيه، تستحق التمجيد أكثر من غيرها عبر التاريخ، وذلك من خلال تخليدها بنصب تذكارية عظيمة.
مررت قبل فترة بمنطقة "ويستمنستر" وتوابعها، وبدافع الفضول بدأت أعاين التماثيل المـُقامة فيها لعلها ترشدني إلى طبيعة العقلية الحاكمة في ذلك البلد الذي امتلك في يوم من الأيام امبراطورية لم تغب عنها الشمس. وكم كنت مخطئاً في توقعاتي كملايين العرب. فنحن نعيّر بعضنا البعض عادة بأننا لا نقيم وزناً كبيراً للمفكرين والمثقفين والفنانين والأدباء والمبدعين والمخترعين. ولطالما كنا نحترم الغرب ونحسده على إيلائه مفكريه ومبدعيه اهتماماً عظيماً. لكن جولة بسيطة في منطقة "ويستمنستر" ستظهر لنا كم كنا مغفلين. لا أريد أن يستشف أحد من كلامي أن الغرب لا يحترم أدباءه ومخترعيه وكتابه العظام، فهو يضعهم في مرتبة متقدمة، لكنهم لا يستطيعون، بأي حال من الأحوال، أن ينافسوا أبطال الحروب والجنرالات وقادة الجيوش وقادة الحملات الاستعمارية والغزاة الغربيين على الحظوة بمكان لائق حول المنطقة المحيطة بالبرلمان البريطاني ومقر الحكومة.
لم أجد وأنا أتلفـّت يميناً وشمالاً في شارع "وايت هول" وغيره من الشوارع المتفرعة منه غير تماثيل لهذا القائد العسكري أو ذاك. فهنا تمثال لـ"مونتغمري" الذي قارع "هتلر" و"روميل" في الحرب العالمية الثانية، وهناك تمثال لـ"كرومويل" المعروف تاريخياً بسطوته العسكرية الرهيبة، وفي الزاوية الأخرى نصب لقائد القوات البريطانية في هذه المعركة التاريخية أو تلك. وفي زاوية ثانية عدة تماثيل لجنرالات قتلوا وسفكوا ما تيسر لهم من الدماء البريئة وغزوا من البلدان أكثر مما قرأوا من كتب. ولا ننسى أن ساحة "الطرف الأغر" تحتضن واحداً من أعلى النصب التذكارية في البلاد، ألا وهو تمثال "اللورد نلسون"، البطل الذي صارع الفرنسيين في أكثر من معركة وانتصر عليهم. وإذا وجدتَ تماثيل لبعض المفكرين والمخترعين في الساحة الشهيرة سترى أنها تماثيل قزمية بالمقارنة مع تمثال المقاتل الشرس "نلسون"، ولايتجاوز ارتفاعها مترين أو ثلاثة على أكثر تقدير، كما لو أن الطبقة الحاكمة تقول: "القوة وبس والباقي خس"، وإن الجبروت هو أعلى وأرفع القيم التي نؤمن بها.
وللتذكير فإن هناك بقعة صغيرة على الطرف الآخر مقابل تمثال اللورد "نلسون" مباشرة لايوجد فيها تمثال. وقد شكلت الحكومة لجنة خاصة لاختيار شخصية تاريخية كي يـُقام لها نصب في تلك البقعة. وقد أمضت اللجنة ثلاثة أعوام وهي تبحث عن شخصية عظيمة كي تقابل "نلسون" في الطرف الآخر، فلم تجد، مما حدا بالحكومة البريطانية إلى أن تنسى الموضوع، وأمرت بعد كل هذا الجهد بزراعة شجرة في المكان الذي كان مخصصاً لبطل يضاهي "نلسون" في قوته وجبروته وبطولاته. لا أدري مثلاً لماذا لم يقيموا نصباً للأديب العظيم شكسبير. ربما لأنه ليس رمزاً للقوة والعنف والبطولة.
وإذا كان البريطانيون قد شيدوا لـ"نلسون" تمثالاًً شاهقاً كي ترنوا أعين الناس إليه إلى الأعلى، فإن الفرنسيين قد أقاموا لنابليون تمثالاً بطريقة تجعل كل من يريد أن يراه ينحني. لقد بنوا النصب النابليوني في قاع المكان المخصص للتمثال، لكن ليس للانتقاص من قدره، بل كي يحني المشاهدون رؤوسهم، وهم ينظرون إليه كنوع من الخشوع والتقديس لذلك البطل الفرنسي الخالد.
إن أهم قيمة عبر التاريخ هي قيمة القوة، وليس أي شيء آخر. وإذا كانت أمريكا ترهب العالم هذه الأيام فليس بذراعها الاقتصادي أو الأخلاقي بل بسطوتها العسكرية الرهيبة، حيث وصلت قواعدها العسكرية إلى حدود الصين. ولعلنا نتذكر مقولة "ستالين" الشهيرة حينما أخبروه بأن الفاتيكان قد انقلب ضد الاتحاد السوفياتي فسألهم "ستالين": "وكم يملك من الدبابات"، فأجابوه: "ولا دبابة"، فضحك "ستالين" بملء شدقيه ساخراً من ذلك الخطر المزعوم. وهناك أيضاً مقولة للقائد البريطاني آنف الذكر "كرومويل" حينما أخبروه بأن هناك مظاهرة حاشدة حول مقره فسألهم: "هل يحمل أي من المتظاهرين أسلحة"، فأجابوا: "لا"، فرد عليهم "كرومويل" بضحكة مجلجلة: "دعوا أحد الجنود يطلق عليهم رصاصتين وسيتبخرون بسرعة البرق".
وفي الوقت الذي لا يقدس فيه الغرب سوى القوة والأقوياء، ويتسلح فيه العالم حتى أسنانه، نجد بعض الأنظمة العربية لا هم لها سوى الترويج لما يسمى بثقافة السلام والهوان ومحاصرة المقاومين، يساعدها في ذلك رهط ممن يسمون بـ"الليبراليين العرب الجدد" الذين أخذوا على عاتقهم إدانة وتجريم كل عربي يحاول أن يدافع عن وطنه بحجر صغير أو بسكين المطبخ. كيف لا وقد كان مثلهم الأعلى الرئيس المصري أنور السادات الذي أعلن قبل توجهه إلى إسرائيل عام 1977 أن حرب أكتوبر ستكون آخر الحروب العربية مع إسرائيل؟ مع العلم أنه لم يحدث في التاريخ أن أعلنت دولة ما بأنها لن تحارب من الآن فصاعداً. فهناك مثل يتداوله العالم منذ الأزل يقول: "إذا أردت السلام فاستعد للحرب". مع ذلك فهناك توجه عربي غريب يجنح للسلم "عمـّال على بطـّال"، والويل كل الويل لمن يستخدم مفردة "مقاومة" فقد غدت كلمة ملعونة مطعونة إلى يوم الدين.
لا تخجلي من تمجيد القوة يا "أمة الفتوحات"، فالتاريخ لا يصنعه إلا الأقوياء. ولو ألقينا نظرة بسيطة على تطور التاريخ نجد أنه عبارة عن سلسة متصلة من المعارك والغزوات، لا أكثر ولا أقل. وقد قال عز وجل في محكم كتابه: "ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض". وكل من يحني ظهره يصبح مطية للركوب.
صدقوني، لو كانت المقاومة اللبنانية غربية لرأينا اليوم: ثلاجات وسيارات وألعاباً ومناطيد وأغنيات وشارات تحمل أسماء أبطالها. وأنا واثق من أن هوليوود ستكون قد قامت الآن وفي هذه الفترة الوجيزة بتصوير عشرات الأفلام عنهم، وأنتجت مسلسلات من الصور المتحركة للأطفال. وأصدرت كتباً تروج فيها أساطير حول بطولات المقاومين ومآثرهم. ولكان سلفستر ستالوني وأرنولد شفارتسنيغر بالمرصاد لتأدية دور المقاومين الذين يستطيع الواحد منهم إبادة كتيبة معادية بمفرده دون أن يمسه سوء.
وليحمد أبطال الحروب العربية القديمة من أمثال صلاح الدين الأيوبي وعمر المختار وعبد القادر الجزائري وعبد الكريم الخطابي وأحمد عرابي وسلطان باشا الأطرش - ليحمدوا ربهم أنهم لم يحاربوا في هذا الزمن العربي الرديء، وإلا كانوا اعتبروهم إرهابيين ومغامرين. لكن لو كان السيد حسن نصر الله أمريكياً أو أوروبياً لحجز لنفسه تمثالاً ضخماً في منطقة "وايت هول" البريطانية أو "سنترال بارك" الأمريكية. أما عندنا فحسبه أن ينجو من نقيق الضفادع.