الشرق الأوسط من أستراليا
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
للقادم من الشرق الأوسط المتخم بجراح جرائم الإبادة التي ارتكبتها إسرائيل بحق الشعبين اللبناني والفلسطيني في الشهرين الماضيين، تبدو الحياة هنا في أستراليا انها تنتمي إلى كوكب آخر تختلف اهتماماته وإيقاعاته كليّاً عما يشغل قلوب وضمائر الحريصين على تلك المنطقة الملتهبة من العالم: الشرق الأوسط. وللقادم من الشرق الأوسط إلى أستراليا يبدو الهدوء هنا والمساحات الخضراء الشاسعة والأنهار التي تنساب بهدوء ونظام أمراً لافتاً بالفعل، كما يبدو الحديث الذي يتناول نتائج المباريات الرياضية أو أخبار الطقس ترفاً لأناس يعيشون حالة طبيعية، بعد أن ابتعد عنهم شبح الحرب منذ الحرب العالمية الثانية، ولا يريد أحد أن يستعيد حتى ذكرى الحرب أو ما قد تسببه من دمار وأضرار. وحتى للمهتمين بالشأن السياسي تحرص قنوات الأخبار على عدم تعقيد قضايا الشرق الأوسط فتختزل كل ما يجري هناك بزيارة الأمين العام إلى المنطقة، أو باحتمال إطلاق جهود للسلام أو ببدء وصول قوات الأمم المتحدة إلى لبنان. لم يسمع أحد هنا أنه منذ أن بدأت إسرائيل عدوانها المسمى "مطر الصيف" على الشعب الفلسطيني الأعزل قتلت مئتين وأربعين فلسطينياً غالبيتهم في غزة ومائة وسبع وتسعون منهم مدنيون من بينهم إثنتا عشرة امرأة وثمان وأربعون طفلاً.
كما لا يعرف أحد هنا عدد الأطفال في لبنان وفلسطين الذين فقدوا يداً أو رجلاً أو عيناً نتيجة انتشار القنابل العنقودية التي خلفتها إسرائيل لتصطاد المدنيين حتى بعد انسحابها، كما لم يسمع أحد هنا بالكارثة البيئية التي تسبب بها عمل إسرائيل الإجرامي بإلقاء المواد الملوثة والمشعة والمسرطنة على الساحل اللبناني والتي امتدت أيضاً إلى السواحل السورية.
وحتى بالنسبة للجالية العربية التي كانت تعتمد على تلفزيون "المنار" للاطلاع على حقيقة إحداثيات العدوان الإسرائيلي الشرس على لبنان والتصدي له من قبل المقاومة الباسلة، فقد أجبرت جميع الشركات التي كانت تنقل بث تلفزيون "المنار" على التخلي عن إيصاله للجالية العربية في أستراليا أو مواجهة عقوبات شديدة. نادرون هنا الذين رأوا ما ألحقته إسرائيل من دمار في المنازل والجسور والطرقات في لبنان وأشدّ ندرة هؤلاء الذين رأوا صوراً لمجزرة مروحين وقانا والرويسة والشياح في عصر يتوهم البعض أنه يتميز بسرعة انتقال المعلومة الحرّة وغير المقيدة بين أرجاء العالم كافة!
لقد اكتشفت كلّ هذا وأكثر خلال يوم واحد هو الخميس، السابع من أيلول، والذي بدأته بإلقاء محاضرة في جامعة غرب سيدني وأنهيته بإلقاء محاضرة في جامعة ماكواري في سيدني أيضاً. وفي كلتا المحاضرتين اصطحبت معي عرضاً عن المجازر التي ارتكبتها إسرائيل في لبنان وصوراً للأطفال الذين قضوا نائمين في قانا والذين تشوهت أجسادهم في مروحين والشياح ورويسة وعيتا الشعب نتيجة استخدام إسرائيل القنابل العنقودية، فساد جو متوتر وكئيب على مئات الحاضرين والذين كادوا ألا يصدقوا ما تراه أعينهم لولا أنه كان مدعوماً، لحسن الحظ، بالصور ذاتها التي نشرتها جريدة "الاندبندنت" البريطانية وبعض الصور الأخرى التي نشرتها (اللوس أنجلوس تايم ـ الأمريكية)، وساد صمت مرعب بعد المحاضرة اكتشفت بعد ذلك أن سببه هو أن الغالبية تغصّ بالدمع وغير قادرة على الكلام. ولكسر رهبة الصمت هذه سألت الحاضرين من منكم رأى هذه الصور من قبل ورفع شخص واحد من مئات الحاضرين يده وقال رأيت بعضاً منها على شبكة الانترنت. وفاق حزني حزنهم في هذه اللحظة وفاقت كآبتي كآبتهم، إذ أننا أمضينا أياماً عصيبة خلال العدوان الهمجي على لبنان نراقب الفضائيات العربية ويغلي الدم في عروقنا ونستغرب كيف يسكت العالم عن مثل هذه الجرائم بينما العالم منشغل في قضاياه ويومياته بعيداً عن تلك المنطقة التي تبدو له دائماً مضطربة لسبب أو لآخر! وبعد الصمت الحزين من قبل الحاضرين تصاعدت التساؤلات: لماذا لا ينشئ العرب فضائية بقوة الـ"سي ان ان" كي تنقل للعالم، وباللغة الإنكليزية، حقيقة ما يجري في الشرق الأوسط وكي يطلع العالم على حقيقة الصراع من وجهة نظرهم؟ لماذا لا يستثمر العرب أموالهم في الإعلام لضمان إرساء أسس العدالة والاحترام لقضاياهم؟ لماذا لا يتحدى العرب والمسلمون المفاهيم التي تروجها بعض الجهات عنهم ويضعون مفاهيمهم عن أنفسهم للرأي العام العالمي بكلّ الوسائل والطرق المتاحة؟ كما أن بعض ردود الفعل المتآنيّة والمتعمقّة أثلجت صدري وزادتني قناعة أن العمل ممكن والنجاح ممكن رغم كل الصعوبات التي تعترضنا. فقد تحدثت سيدة أسترالية من حزب العمال بعد العرض الذي قدمته فقالت: ماذا أقول ونحن لا نمتلك ولا فكرة صغيرة عن المعاناة التي يتعرض لها أبناء الشرق الأوسط، ولا فكرة لدينا عن حجم المأساة التي تعيشها شعوب المنطقة، وأضافت: ماذا أقول والعالم لا يمتلك قيادة أو رؤية أو إرادة سياسية لوضع حد لمعاناة الناس الأبرياء هناك، أما الحل فهو أن يسأل الغربيون الذين يعيشون في ديمقراطية غربية عمّن يمثلهم وينظرون إليه في عينيه ويسألونه من أنت وماذا تمثّل وأي القيم تؤمن بها وما هو تاريخك وأخلاقك وخطط عملك؟ علّ ما زاد الموقف عمقاً هو أن الكثيرين هنا يشعرون، ولو بصمت، بعمق المأساة التي ارتكبت بحق السكان الأصليين في أستراليا (الأبروجينيين) كما أن العامل الآخر هو أن سكان أستراليا ينتمون إلى أصول مختلفة من كل أنحاء المعمورة مما يساعدهم على تفهم قضايا الآخرين وما يتعرضون له، بشرط أن تصلهم هذه القضايا كما هي، لا كما تحاول الدوائر المغرضة عرضها بطريقة مجحفة للحق العربي ومستهترة بحياة العرب وكرامتهم وأرضهم ومياههم. هل يتخيل أحد قصة النساء السجينات الفلسطينيات اللواتي يلدن أولادهن في سجون الاحتلال الإسرائيلي غير المعروفة هنا خاصة.
من هنا، من هذا البلد البعيد يبدو العرب منخرطين إما برثاء الذات أو بإعلان الانتصار أو بالتألم الشديد على ما يجري دون القيام بالعمل المنظم والحثيث لنقل وقائع كل ما يجري مع تفسيراته وأبعاده للرأي العام العالمي. وللذين يعتقدون أن سرعة انتقال المعلومة ووجود التقنيات الحديثة كفيل بحد ذاته بنقل المعلومة بالطريقة التي تعبّر عن الواقع نقول إن هذا غير صحيح وأن اعداء الأمة العربية قد استغلوا التقنيات الحديثة خير استغلال لينقلوا ما يدور في منطقتنا من وجهة نظرهم فقط، مما زاد في عزلة العرب وقضاياهم عن الرأي العام العالمي. صحيح أن المقاومين البواسل هم الذين غيّروا المعادلة ولكنّ إعلام المقاومة أيضاً هزم الإعلام الإسرائيلي في منطقتنا، وقد حان الوقت ليتبنى العرب إعلام المقاومة على الساحة الدولية لينقلوا حقيقة الصراع في منطقتنا إلى رأي عام عالمي مشغول بحياته وأموره، ولكنه جاهز أن يدافع عن العدالة والكرامة الإنسانية، إذا ما تمّ تقديم المادة له جاهزة ومقنعة وبلغة عصرية قابلة للفهم والاستخدام والتناقل والحوار أيضاً. ليس صحيحاً أن الأسرة الدولية تؤيد إسرائيل في جرائمها ووحشيتها وعدوانها اليومي على الأرض والأطفال والمياه ولكنّ الصحيح هو أن الأسرة الدولية لا تعلم ماذا يجري لأن حملات التضليل والتشويه لما يجري في منطقتنا يومية وعلى مدار الساعة، بينما نادرة هي تلك الأصوات التي توصل الحقائق إلى الرأي العام العالمي سواءً في الولايات المتحدة أو أستراليا أو في مكان آخر في العالم. ان تصنيف البعض في الغرب اليوم للعرب والمسلمين بانهم ارهابيون يقابله مفهوم آخر هو يائس من العمل في الغرب ومقتنع أنه مهما فعلنا لن نتمكن ان نغيّر الصورة. وأخشى أن يكون المفهوم من صنع أعداء العرب والمسلمين الذين يوصمونهم بالارهاب ويفلسفون لهم عدم جدوى التحرك لتغيير هذا المفهوم واظهار الحقيقة كما هي للرأي العام الغربي.
على العرب اليوم الخروج من دائرة الحديث بين بعضهم والانتقال بالحدث والحديث المنظم واليومي والمدروس إلى الساحة الدولية ، فليس هناك امرأة في العالم تقبل أن يقتل طفل بريء أو امرأة أو رجل بريء وليس هناك أحد في العالم يستطيع أن يدافع عن الاحتلال أو مجازر أو قتل أو دمار، ولكن على أصحاب الحق أن يحملوا رسالتهم بكل جرأة واقتدار إلى العالم أجمع وأن يشككوا في المفاهيم التي تروّج عنهم تمهيداً إلى تغيير هذه المفاهيم بما يليق بهم وبكرامتهم وبحقوقهم.