جريدة الجرائد

الفقر في المجتمع الأميركي والأرقام المضللة

قرائنا من مستخدمي تلغرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك


الأربعاء: 2006.09.13


قبل أسبوعين نشر مكتب الإحصاء السكاني آخر تقديراته الخاصة بالفقر في أميركا, وهي التقديرات الرسمية الأهم لمعدلات الحرمان والحاجة في المجتمع الأميركي. وقد جاءت تلك الأرقام محزنة ومثيرة للصدمة من حيث إشارتها لمستوى الركود والتدهور الذي طرأ على حياة الجيل الماضي من المواطنين الأميركيين. وعلى الرغم من أن معدل الفقر للعام الماضي 2005, الذي بلغت نسبته 12.6 في المئة لم يزد كثيراً على معدل العام السابق له, فإنه زاد زيادة ملحوظة وسريعة على نسبة 11.1 في المئة التي كان عليها المعدل نفسه في عام 1973, مع العلم أن هذا الأخير يعد الأدنى بين كافة قياسات الفقر خلال الثلاثة عقود الماضية. والأكثر إثارة للقلق في هذه الأرقام, هو أن نسبة الأسر والأطفال الأميركين الذين يعيشون تحت حد الفقر اليوم, تزيد كثيراً على النسبة ذاتها قبل ثلاثة عقود خلت.

كما تشير النتائج والمؤشرات الإحصائية نفسها, إلى تواصل عجز السياسات الأميركية الداخلية في التصدي لظاهرة الفقر. لكن وعلى أية حال فإن المعضلة البادية هنا, لها صلة بعدم دقة المقاييس المستخدمة لحساب الظاهرة ورصدها, أكثر من صلتها بمستوى المعيشة الفعلي للمواطنين الأميركيين. أعني بهذا أن المؤشر المستخدم في واشنطن لقياس الظاهرة, إنما هو مؤشر معطوب أصلاً. ولفهم هذا فما على المرء إلا أن ينظر إلى البؤس المدقع الذي كشفت عنه كارثة إعصار كاترينا وما ألحقته من دمار مذهل بالساحل الخليجي الأميركي العام الماضي. فقد اتضح حجم المعاناة الفعلية ومستوى الفقر الذي تعيشه مجموعة كبيرة من المواطنين الأميركيين في المواقع التي ضربها الإعصار. وعليه يستنتج إذن أن المقاييس الرسمية المستخدمة لقياس معدلات الفقر والحرمان المادي في المجتمع الأميركي, تفتقر إلى الحد الأدنى من الدقة المطلوبة.

وكان مؤشر الفقر هذا قد استخدم لأول مرة في عام 1965 حين أعلنت إدارة الرئيس الأسبق جونسون شن حرب على الفقر وقتئذ. وقد اعتمد ذلك المؤشر على قياس مدى فقر أسرة ما, عن طريق مقارنة دخلها السنوي بالحد الفيدرالي المقرر للفقر, مع العلم أن هذا الحد يعادل ثلاثة أمثال تكلفة المستوى الغذائي الصحي الملائم لحجم الأسرة المعنية. وعليه فإذا ما كان مستوى معيشة الأسرة أدنى من ذلك الحد الفيدرالي, فإنها تصنف في هذه الحالة باعتبارها أسرة فقيرة. يلاحظ أن هذا المعدل يطرأ عليه تغير سنوي, أخذاً في ذلك بتبدل الأسعار والتكلفة المعيشية سنوياً.

غير أن التبدلات قد طرأت على ما هو أكثر من مجرد الأسعار وحدها منذ عام 1965. وبالنتيجة فقد أخفقت معدلات الفقر الرسمية الحكومية عن مجاراة هذه التبدلات, ما انسحب على إخفاقها في الاعتراف بالظروف والواقع المتحول باستمرار. فتبعاً لزيادة قدرة المواطنين الأميركيين على الحصول على المزيد من الأرصدة والاعتمادات المالية, تذبذبت دخولهم السنوية من عام لآخر خلال العقود الأخيرة, وبالتالي تحسنت مستويات سكنهم ومعيشتهم والرعاية الصحية التي يحظون بها. وفي كل هذا ما يشير إلى حدوث تحول نوعي جوهري في مستويات معيشة الفقراء الأميركيين اليوم. وما لم تأخذ مؤشرات الفقر الرسمية بهذه الظروف المستجدة على حالة الفقر نفسها, فإنه لا أمل البتة في التصدي المستقبلي لظاهرة الفقر والقضاء عليها في حياة المجتمع الأميركي.

وفي سبيل تبيان المشكلات الناشئة عن خطأ القياسات الرسمية للظاهرة وإخفاقاتها, فما على المرء إلا أن يقارن بين أميركا عام 1973 وأميركا 2001 على سبيل المثال. والوجه الأول من المقارنة هنا, أن معدل دخل الفرد في عام 2001 كان أعلى بكثير عما كان عليه ذلك المعدل في عام 1973 وفقاً لإحصاءات مكتب الإحصاء السكاني, التي أشارت إلى زيادته بنسبة مقدارها 60 في المئة على أقل تقدير, بينما انخفضت معدلات البطالة في العام 2001 قياساً إلى ما كانت عليه في عام 1973. وفي عام 2001 كان عدد الأميركيين الراشدين الذين لا يحملون شهادة أو درجة جامعية لا يزيد على واحد بين كل ستة فحسب. وبالمقارنة فقد كان بين الراشدين الأميركيين اثنان بين كل خمسة ممن لم يكملوا تأهيلهم المدرسي الثانوي في عام 1973. إلى ذلك فقد ارتفع الإنفاق الحكومي المخصص لمكافحة الفقر في عام 2001, إلى مثلي ما كان عليه الإنفاق نفسه في عام 1973.

وبما أن ذلك هو ما عليه واقع الحال, أليس متوقعاً أن تنخفض معدلات الفقر عموماً في مجتمع أكثر ثراءً وغنىً, وأقل بطالة وأكثر تعليماً وتأهيلاً؟ والغريب أن الإجابة عن هذا السؤال بعد كل الذي قلناه هي النفي القاطع! ولكن كيف ذلك؟! ذلك هو ما تؤكده الإحصاءات الرسمية الصادرة عن معدلات الفقر, التي تؤكد أن عدد الأميركيين الذين يعيشون تحت حد الفقر أعلى في عام 2001, وهي 11.7 في المئة, قياساً إلى 11.1 في المئة عام 1973. ولسبب مجهول ما, تصر مؤشراتنا الرسمية على أن العام الأفضل بلا منازع فيما يتصل بمكافحة الفقر هو 1973. غير أن كل الحقائق الموضوعية القائمة على الحس السليم ومنطق تطور وتبدل الحياة نفسها, تؤكد بدء تحول واقع الفقر في أميركا في الاتجاه النقيض والإيجابي اعتباراً من عام 1973 المذكور. فلم لا نأخذ بحقائق الحياة, بدلاً من التشبث بالأرقام والإحصاءات النظرية المجردة, إن كنا نستهدف مكافحة الفقر فعلاً والقضاء عليه؟

نيكولا إيبرستاد

أستاذ كرسي "هنري ويندت" للعلوم السياسية بمعهد "أميركان إنتربرايز".

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف