سياحة «عدم الانحياز»؟!
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك
راجح الخوري
تبدو لافتات الترحيب التي تزين شوارع هافانا هذه الايام كأنها من زمن مضى. انه في الواقع ذلك الزمن الذي ولّى بكثير من اليأس والخيبة، مخلفا وراءه عنوانا بلا معنى: دول عدم الانحياز.
عدم الانحياز، في وقت يفترض في كثيرين من زعماء الدول الذين تقاطروا الى كوبا ان يكونوا منحازين مرتين على الاقل: مرة ضد سياسة الهيمنة الآحادية ومرة ثانية مع انفسهم ومصالح بلادهم التي تسبح مثل الاسماك في محيط معولم تديره اميركا شاؤوا ام أبوا.
عندما كان العالم تقريبا في قبضة "الاستقطاب الثنائي" بين الرأسمالية التي تقودها الولايات المتحدة، والاشتراكية التي يتزعمها الاتحاد السوفياتي آنذاك، كان مفهوما ان يقف عدد كبير من دول العالم الثالث اضافة الى دول كبيرة لكنها تعاني مثل الصين والهند ويوغوسلافيا واندونيسيا ومصر والجزائر، تحت اللافتة التي تقول: "دول عدم الانحياز".
بمعنى البحث عن موقع آخر غير منحاز لا الى معسكر واشنطن ولا الى معسكر موسكو. لكن هذا الموقع الثالث ظل دائما بلا جدوى لأسباب ثلاثة على الاقل:
❐ اولاً: لان دول عدم الانحياز شكلاً كانت منحازة فعلاً. بعضها لامس حدود الاشتراكية معتمدا على دعم السوفيات، وبعضها الآخر زايد عند تخوم الاشتراكية طمعا بلفت نظر اميركا والرأسمالية من اجل الحصول على مزيد من "الفتات".
❐ ثانياً: لان دول عدم الانحياز لم تكن لتشكل كفة مؤثرة في الترجيح في الميزان الدولي، لان طبيعة العلاقات الدولية والمصالح المتشابكة على المستوى العالمي لم تكن لتتأثر بالصراخ والبيانات النارية والتصريحات الاستعراضية، بل بالقوة الاقتصادية وما فيها من "الهيمنة القدرية" اذا جاز التعبير وبالقوة العسكرية وما فيها الغطرسة والاملاء.
❐ ثالثاً: لأن العالم عرف تجربة اخرى لخلق قوة ثالثة تكسر احتكار الثنائية الدولية، ولكنها تجربة متعثرة وبطيئة وغير ذات تأثير فاعل، انها تجربة شارل ديغول والوحدة الاوروبية، التي رغم الفوارق الكبيرة بين مستوى الدول الاوروبية ودول عدم الانحياز، لم تتمكن من ان ترسم خطا استقطابيا ثالثا فوق المسرح الدولي، فما بالكم بالدول الفقيرة والنامية؟
❐ ❐ ❐
بعد عشرين عاما على انهيار الاتحاد السوفياتي الذي بدا في اواخر الثمانينات كأنه مجرد امبراطورية من الخردة، ومع سقوط الثنائية في لعبة الاستقطاب الدولي، تبدو حركة عدم الانحياز الآن كأنها مجرد لافتة تراثية تستعاد بطريقة احتفالية لن تقدم او تؤخر، وإن يكن في وسع المبالغ التي تتكبدها الوفود التي تطير للمشاركة فيها، ان تدفع اقساط مجموعة من الطلاب المعوزين في هذا البلد او ذاك!
حتى الاسم الذي يجمع ما يقرب من مئة دولة تشارك في قمة هافانا، لم يفكر احد بعد في تغييره، رغم انه فقد معناه انشائيا او بلاغيا، وإن يكن فاقدا هذا المعنى سياسيا منذ البداية.
"عدم الانحياز"؟
عدم الانحياز الى من، في عصر الامبراطورية الاميركية وفي زمن الآحادية التي تكاد تلتهم آخر معالم "القوة الثالثة" في اوروبا التي تبدو الآن غارقة في الاطلسية حتى اذنيها؟
ولماذا لا تصير حركة "انحياز" الى المصالح الوطنية لهذه الدول التي ذهبت الى احتفالية كوبا في سياحة لن تكون متاحة في كل يوم، حيث يمكن الاستمتاع بطقس الكاريبي وتدخين السيكار الهافاني الفاخر الذي تصنعه انامل الاطفال الفقراء والنسوة التاعسات، وحيث يمكن رؤية ذلك الزعيم الخرافي فيدل كاسترو الذي واجه اميركا وحيدا اكثر من السوفيات وكل دول عدم الانحياز، والذي يتمدد في سريره صامدا كآخر ديناصورات الشيوعية المنقرضة تقريبا.
لقد تغيّر العالم كثيرا. في زمن العولمة والانترنت لم يعد اسم ارنستو غيفارا يلهم الشباب الشعر والنضال ضد الهيمنة والاستعمار ومن اجل الحق والعدل والمساواة، بل صار منطلقا للغواية التي تأخذ اشكالها العصرية في الوشم على الصدور والاقفية احيانا والرسوم على الثياب!!
واذا كانت "حركة عدم الانحياز" قد ظلت شهادة بلا اي معنى او تأثير في زمن الحرب الباردة و"الاستقطاب الثنائي"، كما قلنا، فماذا تستطيع ان تفعل الآن، عندما تدعو مثلا الى تكريس حق ايران في التخصيب النووي، والى ادخال الديموقراطية الى مجلس الامن والى تعزيز سلطات الجمعية العمومية، والى زيادة عدد الاعضاء في مجلس الامن وتعديل نهج عمله وازالة الامتياز الجائر والمهين المتمثل في حق النقض (الفيتو)؟
❐ ❐ ❐
في الستينات دعا احمد سوكارنو احد مؤسسي حركة عدم الانحياز الى نقل الامم المتحدة من أميركا وشاركه في ذلك كثيرون من زعماء تلك الحقبة التي تعتبر ذهبية بالنسبة الى هذه الحركة قياسا باليوم: جواهر لال نهرو، وشو إن لاي واحمد بن بله، ولكن ماذا كانت النتيجة؟
بقيت الامم المتحدة في الولايات المتحدة، ربما لانه اذا توقفت اميركا عن دفع مستحقاتها الى المنظمة الدولية سنجد كوفي انان يطلب في اليوم الثاني عملا في طهران، او تيري رود - لارسن يسأل عن وظيفة في دمشق!
عندما قال الرئيس اميل لحود في مطار هافانا: "ان مؤتمر عدم الانحياز حدث في غاية الاهمية، تترقبه شعوب اكثر من 100 دولة"، ارتفعت قهقهات قوية من الآخرة. ربما من الجنة او من الجحيم او من الجنة والجحيم.
انها قهقهات جمال عبد الناصر وجوزيب بروز تيتو وكوامي نيكروما!