الإرهاب في سورية
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
عبد الله اسكندر
تؤكد التجارب أن أي بلد في العالم، مهما ارتفعت درجة اليقظة والتعبئة فيه، لا يمكنه ان يضمن الامن فيه مئة في المئة. وتؤكد ايضاً ان ما يطلق عليه "الارهاب التكفيري" يستطيع ان يخترق اكثر الحصون حماية. ومن شروط الوقاية من العمليات الارهابية وإحباطها قبل وقوعها، تحديد العناصر التي تجعل هذا البلد مستهدفا اكثر من سواه. وتحديد ان هذه المجموعة تنشط في هذا البلد او ذاك. وتحديد خطوط التماس التي يمكن ان تنشأ في بلد ما مع مجموعة ارهابية.
وتؤكد التجارب ايضاً أن أي "انتحاري" لا يتحول انتحاريا بين ليلة وضحاها. هناك سيرورة تحول الانسان العادي الى انتحاري. وهي سيرورة قد تطول سنوات... من التعرف الى عضو في خلية ارهابية، الى اعداده لسماع الخطاب التكفيري، الى جذبه الى هذا الخطاب، الى تعبئته بمفاهيم تكفيرية، الى اقناعه وتدريبه على ان اعظم عمل يفعله هو ان "يستشهد" بتفجير هدف ما. اي ان هناك "بيئة" تكفيرية تعد الانتحاريين. وعلى هذه البيئة تتركز، عموماً اعمال الرصد والوقاية واحباط العمليات الانتحارية.
في هذا الاطار يمكن النظر الى العمليات الارهابية "التكفيرية" التي تعلن السلطات السورية إحباطها بين فترة وأخرى، وآخرها تلك التي استهدفت مبنى السفارة الاميركية في دمشق لتكون بين العمليات الكثيرة التي تحبط في العاصمة السورية وضاحيتها في العامين الماضيين، اضافة الى عمليات أخرى في مدن ومناطق اخرى.
وبعد كل من هذه العمليات، يسمع الجمهور بيانا مقتضبا من وكالة الانباء الرسمية (سانا) وتصريحا من وزارة الداخلية، وربما تعليقات غير رسمية أخرى، تكرر ما جاء في الاعلانات الرسمية، أي يجري التعامل رسمياً، بالعلن على الاقل، مع هذه العمليات بوصفها حوادث تُعالج امنيا، وليس تعبيرا عن بيئة "تكفيرية". فيُجهل الفاعلون، وتنتهي سيرهم بمقتلهم. ولا تعود العملية المعقدة (من استقطاب وتعبئة وتدريب وتخطيط وتنفيذ الخ...) سوى تقرير جنائي. فتُطمس شخصيات المنفذين كبشر تعلموا وعملوا وتزوجوا وارتبطوا بعلاقات. ولا يعرف الاحياء من اقربائهم واقرباء ضحاياهم الاسباب والدوافع التي ادت الى مقتل احبائهم.
للسلطات السورية كل الحق في القيام بتحقيقاتها السرية والتكتم على معلومات في اطار التحقيق. لكنّ اياً من التحقيقات، في العمليات الكثيرة التي شهدتها البلاد، لم يؤد حتى الآن الى اعلان رسمي وشفاف لملابسات العمل الارهابي، ولا الى محاكمة علنية يمكن من خلالها للجمهور ان يطمئن الى مصيره، وهو الذي يدفع الثمن في غالبية الحالات. وتزيد من التساؤل عن طبيعة هذه العمليات ومنفذيها، العلاقة الملتبسة بين دمشق وبين اميركا وحلفائها في الحرب على الارهاب، والاتهامات التي لم تبدد لسورية بدور في العراق ولبنان، والمساعي السورية لكسر طوق عزلة سببتها الالتباسات السابقة... وبدا احياناً ان دمشق تبذل جهدا مضاعفا لاقناع الرأي العام والعالم بحقيقة حصول العمل الارهابي، من غير تبديد الشكوك بكونها هي ايضا مستهدفة من الارهاب.
يميل كثيرون في بلادنا الى التشكيك بأي اعلان، في الولايات المتحدة وأوروبا، لاحباط عمليات ارهابية قيد الاعداد. ومصدر التشكيك هو الاحساس انه بعد كل كشف من هذا النوع ستزيد السلطات الغربية اجراءاتها ضد المسلمين، بسبب العداء الغربي لهم. لكن بعد الفترة الضرورية للتحقيق، تُكشف كل المعلومات المتعلقة بالتهم والمتهمين. ويُطلق من لا يثبت تورطه ويحال على المحكمة من يشتبه به. ويتولى محامون بارعون تفكيك التهم على نحو لا يمكن معه التشكيك بأي دليل يقدمه الادعاء. وكثيرا ما خزلت التحقيقات استنتاجات واتهامات متسرعة جمعتها الاجهزة الامنية. في أي حال يجري التعامل مع القضية بوصفها من صنع بشر حقيقيين، لهم تاريخهم وبيئتهم ودوافعهم... ما يمكن التوصل الى الخيوط والتشابك بينها من خلال سيرهم الشخصية، وصولا الى امكان الوقاية من خططهم.
ومصدر التشكيك في إحباط عمليات مماثلة في سورية، رغم اصوات اطلاق النار وسقوط القتلى، هو التعامل الامني الأحادي الذي يعزل مثل هذا الارهاب عن كل عناصره البشرية والسياسية والاجتماعية والثقافية والاقتصادية والحقوقية. والاربعة الذين قتلوا في محاولة تفجير السفارة الاميركية اخيرا، لهم اسماء، وعاشوا في مكان ما مع اهل واصدقاء وتأثروا بداعية ما وارتادوا مسجداً ما. انهم لم يأتوا من العدم الى الانتحار. جاءوا من مكان ما توافرت فيه شروط الانتقال من التدين الى التكفير والانتحار. وهذه الاسئلة تلح في سورية كونها دولة شديدة المركزية تضخمت فيها الأجهزة الأمنية كثيراً، الى حد القناعة بأنها باتت جزءاً من كل نواحي الحياة في البلاد.