جريدة الجرائد

المخاطر الكامنة على طريق تنفيذ القرار 1701

قرائنا من مستخدمي تلغرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك



حسن نافعة


ظل قرار مجلس الأمن رقم 425 الذي صدر عام 1978 والذي يلزم إسرائيل بالانسحاب من جنوب لبنان ويطالب الجيش اللبناني في الوقت نفسه بالانتشار في الجنوب، من دون تنفيذ طوال 22 عاما، وحين اضطرت إسرائيل للانسحاب من لبنان عام 2000 ادعت أنها نفذت ما يخصها من هذا القرار وطالبت الحكومة اللبنانية بتنفيذ ما يخصها فيه ايضا. وكان باستطاعة إسرائيل أن تسحب من "حزب الله" كل الذرائع التي بررت تمسكه بسلاحه والاستمرار في المقاومة، وبالتالي رفض انتشار الجيش اللبناني في الجنوب، لو أنها كانت وافقت على الانسحاب من منطقة مزارع شبعا والإفراج عن الأسرى اللبنانيين في الوقت نفسه.

غير أنها، وكعادتها دائما، فضلت الاحتفاظ بهذه القضايا معلقة وغير محسومة على أمل استخدامها كذريعة لنزع سلاح "حزب الله" بالقوة أو لإجباره على التخلي عن سلاحه في الوقت المناسب من دون الاضطرار لتقديم ضمانات تحول دون تكرار العدوان على لبنان. وعندما قام "حزب الله" بعمليته العسكرية الشهيرة في 12 تموز (يوليو) كان لدى إسرائيل بدائل أخرى للتعامل مع الأزمة غير شن هذه الحرب الهمجية على لبنان. غير أنها، ولأسباب كثيرة، فضلت توظيف الأزمة لتنفيذ خطط كانت في طور الإعداد مع الولايات المتحدة لتغيير قواعد اللعبة في المنطقة برمتها. ويكفي أن نحيل هنا إلى تحقيق سيمور هيرش المنشور في مجلة "نيويوركر" يوم 14 آب (أغسطس) الماضي الذي أعطى معلومات وافية عن بداية وتطور هذا التنسيق، وإلى تقرير وين ماديسون الذي ترجمت صحيفة "السفير" اللبنانية مقتطفات مطولة منه يوم 16 آب، والذي أشار إلى اجتماع عقد يومي 17 و18 حزيران (يونيو) الماضي في بيفر جريك (كولورادو)، تحت غطاء ندوة نظمها معهد "أميركان انتربرايز"، وشارك فيه نائب الرئيس الأميركي ديك تشيني ورئيس وزراء إسرائيل الحالي إيهود أولمرت إضافة إلى ثلاثة وزراء إسرائيليين سابقين هم بنيامين نتانياهو وايهود باراك وشيمون بيريز وبحضور النائب ناتان شارانسكي، لنتأكد أن اللمسات الأخيرة على خطط تدمير "حزب الله" كانت قد انتهت بالفعل ولم يكن تنفيذها ينتظر سوى الذريعة والإخراج المناسبين. ولم يكن لذلك سوى معنى واحد وهو أن قرار الحرب على لبنان كان قرارا أميركيا إسرائيليا مشتركا وجزءا من عملية أوسع استهدفت تغيير قواعد اللعبة في المنطقة كلها، وليس في لبنان وحده، وهو ما أفصحت عنه كوندوليزا رايس بحديثها عن "شرق أوسط جديد يولد من رحم الأزمة اللبنانية".

وفي اعتقادي أنه جرى في هذا الاجتماع تحديدا، والذي ربما لحقته وسبقته اجتماعات أخرى مماثلة لم يكشف عنها النقاب بعد، اتفاق على توزيع الأدوار بحيث تتكفل إسرائيل بتحمل عبء المجهود الحربي، وبالتالي يعهد لها وحدها بحق اختيار التوقيت والمناسبة الملائمين لاتخاذ وإعلان قرار بدء العمليات العسكرية وفق ظروفها وأوضاعها الداخلية الخاصة، وأن تتكفل الولايات المتحدة بإدارة المعركة الديبلوماسية بطريقة تتيح لإسرائيل كل ما تحتاجه من وقت لإنجاز مهمتها وتحقيق أهدافها. ويمكن القول إن الأهداف المعلنة لإسرائيل كانت تعتبر محدودة بالقياس إلى الأهداف الخفية للولايات المتحدة الأميركية. فإذا كانت الأهداف المعلنة لإسرائيل انحصرت في: تدمير البنية العسكرية لـ "حزب الله" ونزع سلاح مقاتليه وإبعادهم إلى ما وراء جنوب الليطاني والإفراج عن الأسيرين من دون شروط ثم تثبيت المنجزات العسكرية سياسيا على الأرض ربما بإبرام معاهدة سلام مع لبنان إن أمكن، فقد اتسعت أهداف الولايات المتحدة لتجعل من هذه الحرب أداة لخلق "شرق أوسط جديد". فالعمليات العسكرية الإسرائيلية ضد "حزب الله" يمكن أن تكون "تجربة أولية" لاختبار احتمالات نجاح الضربة العسكرية لمنشآت إيران النووية، عندما تحين اللحظة المناسبة وتستدعي الضرورة، والقضاء المبرم على "حزب الله" يضمن تحييد الجبهة اللبنانية بالكامل في حالة اندلاع حرب مع إيران وبقاء إسرائيل في وضع يسمح لها بتقديم العون والمساعدات اللوجستية أو العسكرية في هذه الحرب، إن اقتضت الضرورة. وكان تقدير الولايات المتحدة أن محو "حزب الله" من الخريطة اللبنانية سيضعف موقف سورية إلى الدرجة التي قد تضطرها للتخلي عن تحالفها مع إيران وربما مع المقاومة الفلسطينية والقبول بشروط معقولة للتسوية مع إسرائيل، فإذا نجحت هي بعد ذلك في تدمير برنامج إيران النووي يصبح الشرق الأوسط برمته مهيأ لميلاد جديد على النحو الذي تأمله الولايات المتحدة وتتمناه.

كان كل شيء يبدو مرتباً على المسرح الديبلوماسي ولا تعترضه، خصوصا بعد إقدام "حزب الله" على عملية 12 تموز، أي عقبات من النوع الذي شهده العالم قبيل غزو العراق. فالاتحاد الأوروبي جاهز للتعاون مع الولايات المتحدة إلى أقصى مدى ممكن، خصوصا بعد تغير الحكومة في ألمانيا وحدوث تقارب وثيق مع فرنسا كان من ثماره القرار 1559. ولأنه لم يكن مطلوبا منها سوى العمل على اعطاء اسرائيل أطول فترة ممكنة والحيلولة دون وصول الملف اللبناني الى مجلس الأمن، فقد كان من الطبيعي أن تبدو الولايات المتحدة واثقة تماما من قدرة آليتها الديبلوماسية على التعامل بفاعلية مع تطورات الأزمة لتحقيق الأهداف المرجوة. ولذلك لم يكن غريبا أن تتمكن الديبلوماسية الأميركية من إقناع مجموعة الدول الثماني التي عقدت قمتها في مدينة سان بطرسبورج يوم 16 تموز (يوليو) بإلقاء مسؤولية الحرب بالكامل "على حزب الله وحلفائه في سورية وإيران"، واعتبارهم "أساس عدم الاستقرار في الشرق الأوسط"، ورفض كل النداءات لإنهاء الحرب ووقف إطلاق النار، وأصرت وزيرة الخارجية الأميركية على "أن وقف إطلاق النار لا يجب أن يتقرر إلا حين تصبح الظروف مواتية لضمان عدم العودة إلى الوضع السابق غير المستقر".

غير أن نجاح الديبلوماسية الأميركية في تحقيق أهدافها بالكامل توقف على تحقق شرطين اساسيين على أرض الواقع. الأول: نجاح إسرائيل خلال فترة زمنية معقولة في تدمير البنية العسكرية لـ "حزب الله"، والثاني: أن تؤدي الأضرار الناجمة عن العمليات العسكرية إلى انقلاب أغلبية الشعب اللبناني على الحزب وتحميله مسؤولية الحرب. وعندما لم يتحقق أي من هذين الشرطين بسبب صمود المقاومة من ناحية، وهمجية آلة الحرب الإسرائيلية من ناحية أخرى، راحت التفاعلات تعمل لغير صالح المخططات الأميركية. فقد صمد الشعب اللبناني حول المقاومة بطريقة ساعدت على تماسك الحكومة اللبنانية وعلى عزل العناصر والتيارات التي كان من المتوقع أن تتجاوب مع المخططات الأميركية إذا انهارت المقاومة، وفشلت محاولات استخدام الورقة الطائفية تحت ضغط شارع عربي وإسلامي التف حول المقاومة، مما ادى الى تعديل المواقف السياسية وبدء تحرك أكثر جدية من أجل التوصل إلى وقف لإطلاق النار من دون شروط مسبقة.

وحين انعقد مؤتمر روما، الذي كان يفترض أن يشكل منبرا لدعم الحكومة اللبنانية ولبحث أنسب الوسائل لمساعدتها على بسط سلطتها على كامل التراب الوطني اللبناني في مواجهة حزب يصنف على أنه منظمة إرهابية تمنع الدولة اللبنانية بالقوة من نشر جيشها على جزء من أراضيها، فوجئت الولايات المتحدة بمشروع النقاط السبع الذي طرحه رئيس الحكومة اللبنانية فؤاد السنيورة، والتي مثلت حدا أدنى من الوفاق الوطني اللبناني، مما دفع الولايات المتحدة الى التسويف في محاولة جديدة لمنح إسرائيل المزيد من الوقت لعلها تتمكن من حسم الموقف العسكري على نحو يمكنها من فرض شروط التسوية ووقف إطلاق النار في النهاية. غير أن قدرة الولايات المتحدة على التسويف وتعطيل مشاورات مجلس الأمن راحت تضيق تدريجيا إلى أن صدر القرار 1701 على النحو الذي صدر به والذي يتيح لكل طرف قراءته كما يشاء.

غير أننا نود أن نميز هنا بين القراءة القانونية والقراءة السياسية لهذا القرار. فالقراءة القانونية الصرفة تفضي إلى نتيجة مفادها أنه جاء منحازا لإسرائيل ومنحها بوسائل الديبلوماسية الأميركية، ما عجزت عن تحقيقه بوسائلها العسكرية. أما القراءة السياسية فتقول إن موازين القوى على الأرض لا تسمح بالتطبيق الحرفي للقرار وفقا للتفسير الإسرائيلي والأميركي أو حتى الغربي له، وأن طريقة تطبيقه ستتوقف حتما على تطور الأوضاع السياسية في المنطقة وفي العالم. فالقرار وضع نهاية لجولة من جولات الصراع العسكري بين إسرائيل و "حزب الله" لكن الحرب لم تنته، بل ربما تكون الحرب الحقيقية، كما يقول روبرت فيسك، قد بدأت الآن (راجع مقال فيسك في "الاندبندنت" يوم 17 آب).

غير أن قراءة سياسية تأخذ في اعتبارها موازين القوى على الأرض تفضي بالضرورة إلى نتيجة مفادها أن "حزب الله" لم يهزم، بل يمكن القول إنه حقق انتصارا، رغم صدور القرار 1701، لأنه ما زال يحتجز الجنديين الأسيرين، وما زال يحتفظ بكامل قوته العسكرية (رغم انتشار الجيش اللبناني وقدوم قوات دولية كبيرة إلى الجنوب)، ومزارع شبعا بدأت تطرح رسميا باعتبارها أرضا محتلة، أو على الأقل متنازعا عليها، كما بدأ المجتمع الدولي يعترف رسميا بحساسية قضية الأسرى اللبنانيين وضرورة حلها في أسرع وقت. وما لم تقرر إسرائيل استئناف عملياتها العسكرية، وهو أمر يبدو صعبا وربما مستحيلا الآن في ظل وجود قوات دولية بهذه الكثافة في الجنوب، فإن أي تسوية سياسية لا يمكن أن تتم إلا في إطار عملية تبادل للأسرى وعودة مزارع شبعا إلى السيادة اللبنانية. أما نزع سلاح "حزب الله" فيصعب تصور حدوثه إلا في إطار عملية توافق سياسي لبناني يتخلى بموجبها الحزب طوعا عن سلاحه مقابل إعادة بناء قدرات الجيش اللبناني وضمانات دولية بعدم تكرار الاعتداءات الإسرائيلية على لبنان وبحل قضية اللاجئين الفسطينيين في لبنان، وهو ما ينتظر أن يستغرق وقتا طويلا ويحتاج إلى آليات خاصة الأرجح أنها ستتطلب مشاركة أطراف دولية أخرى ستعمل بالضرورة على ربط هذه القضايا ببقية عناصر الصراع العربي الإسرائيلي المتشابكة.

غير أنه يتعين علينا أن ندرك في الوقت نفسه أن فلسفة القرار 1701 تقوم على افتراض أن "حزب الله" منظمة إرهابية جاء المجتمع الدولي ليساند الدولة اللبنانية في مواجهتها، وهو موقف سياسي فرضته اعتبارات خاصة بموازين مختلة لنظام دولي تهيمن عليه قوة وحيدة هي الولايات المتحدة. ويثير هذا الوضع مفارقة مهمة تكمن في أن "حزب الله" هو حزب سياسي له كتلة برلمانية وهو جزء من الحكومة والدولة اللبنانية التي يدعي القرار أنه صدر لمعاونتهما. وعلى هذا الأساس يمكن القول أن تنفيذ القرار 1701 سيتوقف في نهاية المطاف على موقف الحكومة اللبنانية التي لن يستطيع المجتمع الدولي أن يفرض عليها شيئاً لا تريده، بصرف النظر عن أي تفسيرات أميركية أو إسرائيلية للقرار.

المشكلة يمكن أن تظهر في حالة واحدة فقط وهي أن تتصرف الحكومة اللبنانية بوصفها متحدثا باسم دولة تعتبر "حزب الله" تنظيما خارجا على القانون أو "ميليشيا" يتعين نزع سلاحها. ولأن القرار 1701 يمنح الحكومة اللبنانية في الواقع سلطة واسعة في تحديد طبيعة المهام الموكلة لقوات الأمم المتحدة فمن الممكن القول إن بوسع هذه الحكومة، نظريا على الأقل، أن تطلب مساعدة قوات "اليونيفيل" في نزع سلاح "حزب الله". وهذا هو بالضبط سيناريو الحرب الأهلية الذي يحاول الجميع تجنبه لأنه في غير صالح لبنان الدولة والحكومة والمجتمع.

لذا من الطبيعي أن يشعر الإنسان بالقلق الشديد من تصريحات وتصرفات بعض الأطراف اللبنانية، ومن ردود الفعل الغاضبة للسيد حسن نصرالله عليها، وأتمنى على كل العقلاء في لبنان احتواء الأزمة حتى لا يتحول القرار 1701 إلى أداة لتدمير لبنان سياسيا بعد أن دمرته إسرائيل عسكريا.

التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف