أبعد من بذاءة البابا
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على إنستجرام
إضغط هنا للإشتراك
حازم صاغيّة
وصف عبارات البابا، في محاضرته الألمانية، بالحماقة وعدم المسؤوليّة لا يضيف جديداً الى ما قيل ويقال، في الشرق وفي الغرب ايضاً. فبنديكتوس السادس عشر قدّم عيّنة صريحة على بذاءة تأتي من موقع يُفترض ان البذاءات لا تأتيه والخفّة لا تخالطه.
مع هذا، لم يكن صعود الكاردينال جوزيف راتزينغر الى سدّة البابويّة غير تعبير عن تحوّل بدأ يضرب العالم منذ أواخر السبعينات، ملتفّاً على قيم التنوير وعاملاً على تديين السياسة والاجتماع. وما حصل في ألمانيا الجنوبيّة بعض نتائج هذا السياق المديد.
ففي 1979، مثلاً، لعبت الكنيسة الكاثوليكيّة وباباها يومذاك، الراحل يوحنا بولس الثاني، دوراً محوريّاً في الثورة الوطنيّة - العماليّة التي أنهت النظام التوتاليتاريّ التابع للاتحاد السوفياتيّ. وحتى في البلدان المتقدّمة، سُجّلت ارتدادات الى الايمان والقيم التقليديّة جسّدها، على نحو خاصّ، وصول مارغريت ثاتشر الى رئاسة الحكومة في بريطانيا وفي يدها برنامج مزدوج: تحطيم النقابات والرجوع الى الثقافة الفيكتوريّة الطهرانيّة. وما لبث رونالد ريغان أن ظهر في الولايات المتحدة حارساً للإيمان في مواجهة الشيوعيّة.
وأدلى العالم الاسلاميّ بدلوه من خلال حدثين هائلين كانت لهما، ولا تزال، أصداء حادّة وترجيعات على حياة الكون بأسره. فمن جهة، قاد آية الله الخمينيّ، بشعارات دينيّة، ثورته التي أسقطت الشاه في ايران ووضعت رجال الدين القائلين بـ "ولاية الفقيه" في سدّة السلطة. ومن جهة أخرى، ولد "الجهاد" الأفغانيّ الذي وضع الاسلام بديلاً من الشيوعية، مدعوماً في هذا من القوى المحافظة شرقاً وغرباً.
ومن المجاهدين الى الطالبان، ومن الخميني الى احمدي نجاد، ومن ريغان الى جورج بوش الابن، ومن يوحنا بولس الى بنديكتوس، تواصل هذا التدهور محكوماً، في الغرب والشرق ايضاً، بتطوّرات وأحداث متلاحقة.
فانهيار الشيوعيّة لصالح الرأسماليّة لم يرافقه أي حرص على أجندة اجتماعيّة وتنويريّة بقدر ما صاحبه ميل ثأريّ، لدى عتاة اليمين، مفاده الاستفادة من هزيمة الشيوعيّة للإكمال على المكاسب الاجتماعيّة والتقدميّة المتحقّقة قبلاً. لا بل جاء النصر الرأسماليّ عارياً من القيم، ما خلا قيمة السوق المطلقة، موجداً فراغاً روحيّاً تراءى ان الدين هو وحده ما يملأه ويسدهّ.
وما لبثت "الحرب على الارهاب"، وقد سبقها انبعاث اليمين المسيحيّ في الولايات المتّحدة، ان تكشفت عن سلسلة من الأخطاء الفاحشة المغطّاة بخواء فكريّ وايديولوجيّ متزايد الانقشاع. غير أن الحرب المذكورة دفعت، بتقسيمها الحدّي للعالم، وبالكوارث البشريّة والسياسيّة والاقتصاديّة التي تأدّت عنها، الى مزيد من تديين الشأن العام في سياق استقطابيّ حادّ.
وفي العالم الاسلاميّ، وبشراسة اضافيّة، وباستعراضيّة تكاد تكون بورنوغرافيّة، عمّمها التلفزيون، كانت عمليّات "القاعدة" وإرهابها الدينيّ مقدّمة لمزيد من الارهاب، الزرقاويّ وغير الزرقاويّ، الأشدّ توحّشاً كما عاشه، ويعيشه، العراق.
وفي موازاة ذلك، أبانت العولمة عن وجهها الرثّ الذي بات يتيح للمهاجرين الانكفاء عن أمكنة هجرتهم، فلا يأخذون منها شيئاً ولا يتعلّمون، بل يزدادون تمسّكاً بـ "هويّات" فعليّة أو متخيّلة وفدوا منها أو ظنّوا أنهم وفدوا منها، ويزدادون انخراطاً في مواجهات رمزيّة حول الحجاب والرسوم الكارتونيّة، لا حول شروط الاندماج الفعليّ في السكن والعمل. كذلك راحت الأفكار النسبيّة والما - بعديّات، منذ أواخر السبعينات أيضاً، تلحّ على تساوي الثقافات، مصوّرة أيّاً من الثقافات الدينيّة بوصفها تملك الفائدة نفسها التي تملكها ثقافة التنوير للعيش في الزمن الحديث. أما الذي لا يقول ذلك فغدا، بموجب "الصواب السياسيّ"، عنصريّاً. وتعزّز الفرز القطعيّ في أفكار هبّت من مصادر عدّة وضربت في عديد الاتجاهات، غير بعيدة من الروائح الدينيّة التي تهفّ من صراع الشرق الأوسط وبقائه من دون حلّ. فمن "استشراق" ادوارد سعيد يساراً، الى "صراع حضارات" صموئيل هنتنغتون يميناً، كان ثمّة ما يصرّ على ذاك الفرز وعلى توسيع نطاقه. حتى الماركسيّون بدأوا يؤوّلون ماركسيّتهم عالمثالثيّاً، واضعين فرانس فانون محلّ كارل ماركس، ومعتبرين العنف، لا الانتاج، مصدر حركة التاريخ. وبالمعنى هذا، تم تقليص معنى الاستعمار الى فعل عنفيّ بحت لم تخالطه مدارس وسكك حديد وانتاج كوادر وغير ذلك.
ولا ينفصل فعل البابا الذي مثّل، منذ 1968 على الأقل، اليمين الثيولوجي والكنسيّ المتزمّت، عن الوجهة هذه. وهي واجهة تواكبها بالنشر والتعميم والإهاجة أصوات عندنا، تتصدّرها "قناة الجزيرة" طبعاً، مستميتةً في السعي لأن تجعل العالم كتلتين دينيّتين لا يربط واحدتهما بالأخرى الا الحقد والكراهية.
كاتب ومعلّق لبناني.