جريدة الجرائد

البابا والإمبراطور والداعية الفارسي

قراؤنا من مستخدمي تويتر
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال حسابنا على تويتر
إضغط هنا للإشتراك


أمير طاهري


البابا، شأنه شأن الآخرين، يعبر عن آرائه . وللذين يخالفونه الرأي الحق في الرد عليه، ممارسين بذلك حقهم في حرية التعبير. ولكن لا يحق لهم قتل قساوسة أو الهجوم على الكنائس، وهذه أفعال يحرمها الإسلام.

نعود مرة اخرى الى البابا بينيديكت السادس عشر وما قاله في المحاضرة التي ألقاها في جامعة ريجينبيرغ بألمانيا الاسبوع الماضي.

على العكس من الانطباع الأول، لم تكن المحاضرة تهدف في الأساس الى الهجوم على الإسلام كدين عنف. الهدف الرئيسي لحديث البابا كان المسيحية البروتستانتية بمختلف أشكالها. وبصورة عامة تلخصت أطروحة البابا في انه منذ أيام سينت بول، تخلت المسيحية تماما عن الفلسفة الهيلينية، وكان ذلك نتيجة للتقارب بين المسيحية واليهودية مع البحث المعرفي الاغريقي.

قال بينيديكت: "على الرغم من النزاع المرير مع الحكام الهيلينيين الذين سعوا الى استيعابه بالقوة ضمن عادات ومذاهب الاغريق الوثنية نجحت المسيحية واليهودية في مواجهة الفكر الاغريقي في أعمق المستويات ونتج عن ذلك إثراء متبادل يتضح جليا في أدب الحكمة الذي جاء في وقت لاحق".

بمعنى آخر، ما ظهر بعد ذلك لم يعد الديانة المسيحية كما أرادها مؤسسوها الأوائل وإنما توليفة جديدة من "التنوير الحقيقي والدين".

كان البابا بينيديكت خلال المحاضرة يضع العقيدة والعقل جنبا الى جنب وأوجد جدلا استخدمه في الهجوم على البروتستانتية التي يقول انها بدأت مع حركة الإصلاح الديني عملية "إزالة الهيلينية" من الديانة المسيحية خلال القرن السادس عشر. تواصلت هذه العملية مع "لاهوت التحرير في القرنين التاسع عشر والعشرين" تحت تأثير التمييز الذي توصل اليه باسكال بين رب الفلاسفة ورب إبراهيم.

في تلك المرحلة الثانية، اعيدت رسالة "أنصار لاهوت التحرير" الى عيسى ورسالته في ظل تطور اللاهوت وإضفاء الفلسفة الهيلينية على الكثير من الجوانب.

هناك عدة مشاكل فيما يتعلق بتحليل بينيديكت. اولا، افترض ان الأديان في حاجة الى رخصة للعقل دون ان يعرفه. وفي وقت لاحق هاجم ما سماه "المفهوم الحديث للعقل"، الذي عرّفه بأنه "مركب من الافلاطونية والمنهج التجريبي، الذي أكده نجاح التكنولوجيا".

وبذلك لا احد يعرف ما اذا كان هناك عقل نهائي يمكن ان يقاس الدين على اساسه. إلا ان الحقيقة هي ان كل ما يحتاجه ان نظاما دينيا هو ان يكون معقولا بطريقته، أي ان يكون يتسم بالتماسك والمنطق الداخلي.

في حالة النظر إلى الأديان من وجهة نظر العقل العلمي، ستبدو كلها غير عقلانية. في الوقت نفسه، وحتى مع أكثر الديانات نجاحا فإنها ستبدو غير عقلانية حينما يتم الحكم عليها وفق محتوى إيمانها "على سبيل المثال قد تجد البوذية المسيحية غير عقلانية والعكس صحيح".

كان جوهر رسالة بينيديكت هو المحاججة لصالح دين منظَّم والرفض للأخلاق العلمانية التي يراها ثمرة للثورة العلمية. وقال: "الشخص يقرر استنادا إلى تجاربه، وما يعتبره قابلا للدفاع عنه بالنسبة لقضايا الدين، والشخص الواعي يصبح الحكم الوحيد عما هو أخلاقي. وبهذه الطريقة تفقد الأخلاق والدين قوتهما في خلق مجتمع ويصبحان مسألة شخصية محض".

وحسب بينيديكت لدينا "مرحلة ثالثة من تصفية المرحلة الهيلينية" يجسدها التعدد الثقافي القائم حاليا خصوصا في أوروبا.

يمثل بينيديكت المسيحية كإنتاج مشترك عن الإيمان الإبراهيمي والفلسفة الإغريقية، وهو يحاول إعادة صياغتها كآيديولوجية للغرب وخصوصا لأوروبا.

يقول بينيديكت "ظل الغرب معرضا للخطر بسبب بغضه للاسئلة التي تسلط الضوء على عقلانيته، ويمكنه أن يلقى عذابا كبيرا بسببها". وطالما أن أغلبية المسيحيين هم ليسوا أوروبيين فإن موقف بينيديكت الذي يجعل أوروبا هي المركز فإن رسالته ليست دينية بل هي سياسية تلتمس من الاوروبيين أن يعيدوا اكتشاف هوياتهم باعتبارهم "مسيحيين هيلينيين" أمام الهجرة الواسعة لأناس ينتمون إلى ديانات أخرى. وبهذه الطريقة تصبح المسيحية عنصرا من الثقافة الأوروبية وتعبيرا عن الهوية حتى بالنسبة للملحدين في الغرب.

إنه على أساس تلك الخلفية جاء اقتباسه لما قال الامبراطور البيزنطي مانويل باليولوجوس الثاني وعلى هذا الأساس يجب أن يتم تحليل ما ضمنه البابا في خطابه.

في عام 1391 التقى الامبراطور بالداعية الفارسي في ثكنة عسكرية بالقرب من أنقرة عاصمة تركيا حاليا. ودخل الاثنان في مناقشات استمرت عدة أيام، تعاملا خلالها مع الإيمان في الكتاب المقدس والقرآن.

ولم يكن هذا التقليد شاذا آنذاك لأن إرسال دعاة لدعوة غير المسلمين خصوصا الحكام الأجانب، للإسلام، كان قد تأسس كتقليد لعدة قرون.

وفي ملاحظاته حول الحوار، يقول باليولوجوس إنه أخبر العالم الفارسي الزائر أن محمدا أمر بأن ينشر دينه بالسيف.

لكن هناك مشاكل كثيرة مع هذا الكلام. فأولا لم يكن ممكنا لباليولوجوس أن يعرف ما قاله محمد. وآنذاك لم تكن هناك تراجم إغريقية أو لاتينية للقرآن، إذ "ظهرت أولى التراجم بعد قرون عن ذلك اللقاء في أنقرة". وبغياب معلومات كافية، يكون باليولوجوس منغمرا في دعاية أكثر من أن يكون خلافا لاهوتيا.

واظهر وجود الداعية الفارسي الذي يفترض انه رشيد الدين من بيلقان، ان المسلمين كانوا راغبين في نشر دينهم عبر الاتساع وليس عبر السيف. وبينما سعى الاسلام الى توسيع رقعته على الدوام فانه نادرا ما استخدم السيف لإرغام الآخرين على اعتناق الدين. وعلى سبيل المثال لم تكن اندونيسيا، وهي اكبر بلد اسلامي في العالم، جزءا من اية امبراطورية إسلامية على الاطلاق.

وهناك مسألة أخرى في ما يتعلق بحديث بينيديكت عن المجابهة. فهو لديه جانب واحد من القصة. ولو انه كان قد درس جانب الباحث الفارسي لكان قد اكتشف حقيقتين هامتين؛ الحقيقة الأولى، هي ان المسلمين كانوا، في حينه، على معرفة بالفلسفة الاغريقية افضل من الأوروبيين. وبعد أن جرى تبنيها باعتبارها الدين الرسمي للامبراطورية الرومانية من جانب قسطنطين الأكبر، نظمت المسيحية حملة القضاء على الحضارة الهيلينية التي ازالت انجازات الفلسفة الاغريقية من الذاكرة الجمعية الأوروبية لقرون. وبدون المبالغة بأهمية دور الاسلام في اعادة اكتشاف التراث الاغريقي وتوفير ترجمات سريانية وعربية وفارسية لبعض من النصوص الهيلينية الأساسية، فمن المؤكد ان المسلمين أدوا دورا حاسما في الحفاظ على ذلك الجزء المهم من التراث الثقافي الأوروبي ونقله. وفي الوقت الذي كان فيه الفارابي وابن سينا وناصر خسرو وفلاسفة مسلمون آخرون يدرسون أرسطو، الذي كان يعرف للمسلمين باسم "المعلم الأول"، كان عدد قليل في العالم المسيحي يسمح لهم بالوصول الى نصوصه المحرمة. وحاول القديس توما الاكويني ان يخلق توليفة من الهيلينية والمسيحية عبر "تعميد" أرسطو بعد قرون من تبني الفلاسفة المسلمين الحكيم الاغريقي.

ولفترة زادت على الألف عام كافحت المسيحية، خصوصا في نسختها الرومانية، من اجل محو ذاكرة الهيلينية بالكامل. وحتى الكنيسة الارثودوكسية الاغريقية، التي كان باليولوجوس عضوا فيها، تصرفت كما لو أن التاريخ كان قد بدأ بميلاد يسوع. وليس من باب المصادفة ان بينيديكت، في دفاعه عن الهيلينية، يستشهد بباليولوجوس. والسبب انه، باستثناء الرسول جوليان، لن يجد البابا حاكما واحدا في الجانب الروماني يمكن أن يقدم باعتباره وريثا للتراث الهيليني.

وليس مما يثير الدهشة ان باليولوجوس لم يقرأ القرآن. ولكن يبدو ان بينيديكت لم يقرأه فذلك مثير للدهشة، بدليل ان بينيديكت يصف السورة الثانية في القرآن (سورة البقرة) باعتبارها واحدة من "الفترة الأولى حينما كان محمد عاجزا ويواجه التهديد". والسورة، التي من الواضح فيها انه ينبغي ان لا يكون هناك اكراه في أمور الدين "لا اكراه في الدين" كانت، في الحقيقة، كتبت عام 624 أو 625 عندما كان محمد رئيسا قويا لدولة في يثرب (المدينة) وقائدا لجيش المسلمين. بينيديكت على حق: كل الأديان يجب ان تستفيد من الحوار. ولكن من اجل ان يكون الحوار مثمرا من الضروري للمتحاورين أن يدرسوا معتقدات بعضهم بعضا بصورة أكثر جدية.


التعليقات

جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف