تصريحات البابا وتهمة العنف
قرائنا من مستخدمي تلغرام
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
خليل علي حيدر
لم تساعد اللغات الست التي يتقنها البابا بنديكت السادس عشر، ولا خلفيته الأكاديمية أو دراساته اللاهوتية واهتماماته بالأخطار التي "تهدد بالقضاء على القيم المسيحية وبالذات في العالم الثالث"، وبخاصة النزعات المادية والعلمانية، في أن يدرك الفرق الكبير بين ماضيه الأكاديمي وواقعه البابوي الحالي!
وقد لاقت تصريحاته وحديثه عن علاقة العنف بالإسلام وانتشاره في العالم بالقوة والسيف، استياءً بالغاً حتى في الصحف الغربية نفسها. فكتبت "الواشنطن بوست" الأميركية: (نقول صراحة إن البابا وقع في "خطأ كبير" مما تسبب في خلق المشاكل لنفسه ولكنيسته وللغرب. فقد تحدث بصوت الفقيه اللاهوتي والأكاديمي، مثلما كان ذات يوم، ولم يتحدث بصوت زعيم واحدة من كبرى الديانات في العالم وهي المسيحية). وتساءلت الصحيفة: "لماذا لم يتوقف ليقر أنه في لحظات كثيرة من التاريخ، كان المسيحيون بمن فيهم الكاثوليك أنفسهم، مذنبين بأعمال عنف غير لائقة".
وكتبت صحيفة "لاستامبا" الإيطالية عن حالة من "التذمر داخل الإدارة المركزية البابوية بسبب تصريحات البابا الأخيرة حول الإسلام".
واعتبرت صحيفة "نيويورك تايمز": "أنه من المزعج أن يهين البابا المسلمين مستخدماً اقتباساً من القرن الرابع عشر الميلادي، يصف الإسلام بأنه شرير ولا إنساني". وطالبته بتقديم "اعتذار عميق ومقنع" للمسلمين.
وأشارت صحيفة "ليبراسيون" الفرنسية إلى هذه التصريحات باعتبارها "خطأ سياسياً ودبلوماسياً كبيراً".
ويقول أحد المحللين العرب: "إن توقيت إلقاء البابا لخطابه غير موفق، لأنه أتى بعد العدوان الإسرائيلي على لبنان، وبعد حديث الرئيس الأميركي عن الفاشية الإسلامية، وبعد حديث رئيس الوزراء البريطاني عن قوس التطرف، ويكتسب الخطاب خطورة أكبر لأن قائله ليس رجل سياسة أو أكاديمياً، وإنما هو رأس الكنيسة الكاثوليكية التي تتفق مع الإسلام حول قضايا دينية عديدة، ولذلك يتوقع منه فقط الصدق في القول. والمعروف عن البابا الحالي أنه محافظ ولا يحبذ مواصلة جهود سلفه البابا الراحل في الحوار مع المسلمين وفهم قضاياهم".
ردود الفعل في العالم العربي والإسلامي كانت بالطبع عنيفة، وقد صرح شيخ الأزهر الشريف مثلاً خلال لقاء مع ممثل الكنيسة الكاثوليكية في القاهرة، أن البابا "سكت دهراً ونطق كفراً". وفي الرياض، استنكر مفتي عام المملكة العربية السعودية ورئيس هيئة كبار العلماء وإدارة البحوث العلمية والإفتاء، الشيخ عبدالعزيز بن عبدالله آل الشيخ: "ما ذكره بابا الفاتيكان من مزاعم باطلة عن الدين الإسلامي والرسول الكريم محمد صلى الله عليه وسلم". ودعا آل الشيخ "المؤسسات والمراكز والهيئات الإسلامية إلى مضاعفة جهدها والقيام بدورها من أجل تصحيح الصورة المغلوطة عن الإسلام والمسلمين في العالم الخارجي".
لقد أثبتت تجارب السنوات الأخيرة، أن مثل هذه الأزمات الإعلامية- الدينية، الناجمة عن بعض الممارسات والمنشورات والصور، تتسبب في أذى بليغ على كل صعيد. ولو أشرنا مثلاً إلى كتاب "آيات شيطانية" الذي دفع المسلمون في الغرب ثمن تهديد حياة مؤلفه سلمان رشدي، والذي لم يقرأ منه أحد "آية" واحدة ويتأثر بها، أو التصريحات الانفعالية للبنغالية "تسليمة نسرين"، أو الرسوم الكاريكاتيرية الدانمركية السخيفة التي دمرت أجواء التفاهم بين المسلمين والمسيحيين، دون أن تكون لها أية قيمة فكرية أو فنية حقيقية اللهم سوى السخرية من أجل السخرية، والآن هذه الأزمة البابوية المؤسفة، التي لم تناقش مثلاً تفاصيل العملية المعقدة والتاريخية الطويلة لانتشار الإسلام في دول ومناطق عديدة بوسائل تفاوتت بين العمل العسكري والإقناع الشخصي والتجارة واتباع قرار الحاكم وغير ذلك. أقول، لو أشرنا إلى كل هذه التجارب في افتعال الأزمات بين الإسلام والعالم المسيحي، لرأينا أنها من جانب تعطي الأوروبيين أفكاراً خاطئة عن حقائق الأمور في الإسلام والعالم الإسلامي وتضرُّ بالمسلمين أشد الضرر، كما لا ينجو من شرورها المسيحيون في العالم الإسلامي!
فأول ردود الفعل تكون عادة ثورة الرأي العام وهيمنة الإسلاميين المتشددين على الخطاب الإعلامي، ثم يتبع ذلك تضييق نطاق حرية الفكر والحوار والنقد وقمع الأطراف المستقلة والليبرالية، وإقفال سبل المناقشة العلمية والموضوعية للفكر الديني والتاريخ الإسلامي.
وفي أحيان كثيرة تكون ردود الفعل الإسلامية في غاية الشدة، ولا تقف عند حدود الضرر الواقع، بل تنزل في النهاية الضرر البليغ بمصالح العرب والمسلمين أنفسهم.
ففي هذه "الأزمة البابوية" مثلاً، وفي ندوة بعنوان "آيات الرحمن تكذب بابا الفاتيكان" التي عقدت في الكويت، شن الأمين العام لـ"التجمع السلفي" خالد السلطان هجوماً عنيفاً ضد البابا، ووصفه بـ"النازي"، و"تاريخه هو والفاتيكان أسود وملطخ بالدماء". ودعا النائب "ضيف الله بورمية" الحكومة إلى "تقليص عدد الكنائس وعدم منح أي تراخيص لكنائس جديدة". وأكد ممثل تجمع "ثوابت الأمة": "أن الله عز وجل أوصانا بمقاتلة أئمة الكفر، فلو كانت هناك خلافة إسلامية في وقتنا الحالي لسيّرت الجيوش لمقاتلة عدو الله حتى يدفع الجزية". وتساءل: "أين احترام وحرية الأديان والإنسان التي يتغنى بها الغرب؟".
ولم يكتف بيان "جمعية الإصلاح الاجتماعي" في الكويت، بالرد على ما جاء في محاضرة البابا، بنديكت السادس عشر، بل مضى يهاجم الكثير مما يعتبره المسيحيون من ثوابت عقيدتهم، كما طالب دولة الكويت "إلزام الجامعات الخاصة بتدريس الإسلام عقيدة وشريعة".
وفي الاحتفال التكريمي الذي أقيم بمناسبة انتهاء عمل سعادة السفير الإيراني جعفر الموسوي، هاجم السفير بابا الفاتيكان، موضحاً أن اتهامات البابا للإسلام ونبيه: "تأتي من أجل إيقاف عجلة التطور في الدول الإسلامية ومنع حصول الجمهورية الإسلامية الإيرانية على التقنية النووية السلمية"!
ورغم شجب واستنكار المسيحيين والكنائس في العالم العربي والإسلامي لما جاء في محاضرة قداسة البابا، إلا أن ذلك لم يُجْدِ كثيراً في حمايتهم حتى في فلسطين والعراق!
فقد ذكرت مصادر أمنية فلسطينية أن زجاجتي مولوتوف ألقيتا على كنيستين في نابلس من دون أن تسببا ضحايا أو أضراراً. وفي غزة ألقيت قنبلة يدوية وثلاث عبوات ناسفة على جدار أقدم كنيسة للروم الأرثوذكس -رغم أن الكنيسة ليست كاثوليكية!
وفي البصرة، قال مصدر في الشرطة العراقية إن قنبلة انفجرت أمام باب كنيسة في وسط المدينة، أحدثت أضراراً طفيفة في بابها، عندما فتح الحارس الباب.
وإذا كان الفلسطينيون غير قادرين أو غير راغبين في فهم الفوارق بين البابوية والمسيحية الكاثوليكية، وبين الطوائف الشرقية والأرثوذكسية العربية، رغم عمق العلاقة بين المسيحيين والمسلمين والروابط السياسية والعمل المشترك ضد الاحتلال الإسرائيلي، فاعرف إذن حال بقية العرب والمسلمين!
ويتساءل الواحد منا: لماذا لا يكترث أحد في أوروبا وأميركا اليوم بالتراث التعددي المتسامح للمسلمين في الأندلس واسطنبول والقاهرة وبغداد، ووجود المسيحيين واليهود والهندوس والصابئة وغيرهم في بلدان العالم الإسلامي؟
والجواب طبعاً معروف، وهو الدور المدمر لسمعة الإسلام والمسلمين الذي لعبه أعضاء وأحزاب الجماعات الإسلامية المتشددة والإرهابية في أوروبا وأميركا... ولا تزال!
فباعتقادي، أن الجماعات الجهادية والتكفيرية بالذات، في بريطانيا وفرنسا وألمانيا وأميركا، وفي العالم الإسلامي، هي المسؤولة عن تجديد اتهام المسلمين بالعنف والتوسع. ولاشك أن ممارسات هذه الجماعات ربما مهدت لأن تجد محاضرة البابا الكثير من الآذان الصاغية في أوروبا وأميركا، وربما الهند والصين وأفريقيا.
ومن يظلم نفسه... قد يضاعف له الظلم الآخرون!
التعليقات
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف