عندما يروي «نائب الملك الأمريكي» في العراق مذكراته؟
يمكنكم الآن متابعة آخر الأخبار مجاناً من خلال تطبيق تلغرام
إضغط هنا للإشتراك
تركي علي الربيعو
كان"نائب الملك الأمريكي" والمقصود بذلك السفير بول بريمر كما نعتته وسائل الاعلام الأمريكية، يسكن في الضاحية البعيدة لواشنطن، محاطا بالسعادة من شقراويه كما يذكر، الشقراء الأولى زوجته فرانسي، والشقراء الثانية "ميني "الكلبة المالطية التي اقتناها منذ فترة، فكثيرا ما شده الحنين إليهما من على عشرات الآلاف من الأميال، بصورة أدق، من بغداد حيث يرأس الائتلاف، الى الضاحية البعيدة في واشنطن، عندما هاتفه سكوتر ليبي، كبير موظفي نائب الرئيس ديك تشيني الذي سيقترن اسمه لاحقا بفضيحة عميلة السي آي إي، وبول وولفتيز الذي كان يشغل منصب نائب وزير الدفاع الأمريكي قبل أن يعين مديرا للبنك الدولي، فقد وقع الخيار عليه ليكون "نائب الملك الأمريكي "في العراق، بصورة أدق، منصب إدارة العراق المحتل. يصمت طويلا بعد المكالمة الهاتفية، يفاتح زوجته فرانسي التي تعاني من آلام عضلية والتي سبق لها أن رفضت جميع العروض والمناصب التي عرضت على زوجها بحجة أنها بحاجة اليه.
يستدعي خبرته فقد شغل لمدة عشرين عاما، رئيس اللجنة الوطنية للإرهاب المكونة من الحزبين الرئيسيين في الولايات المتحدة الأمريكية، وقد سبق له أن تنبأ كما يذكر بأحداث الحادي عشر من أيلول ولكن توصياته في هذا المجال الى جانب غيرها كانت قد أهملت وضاعت في أدراج رياح المكتب البيضاوي، وها هي الفرصة تأتيه مؤخرا لمنازلة ما يسميه بـ"الإرهاب الاسلامي " في عقر داره، أو ما يسميه الرئيس بوش لاحقا ب"الفاشية الإسلامية "الذي أثار ضجة من حول هذا المصطلح.
يشد الرحال بعد عشرة أيام من مهاتفته الى البيت البيضاوي لمقابلة الرئيس الأمريكي بوش الذي يصفه بأنه كان "شديد الحيوية وحازما "، يسأله الرئيس بوش بدون مواربة :لم تريد هذا المنصب المستحيل؟ويجيب السفير بريمر بقوله "لأنني أعتقد أن أمريكا أنجزت عملا عظيما بتحرير العراقيين، ولأنني أعتقد أن بوسعي المساعدة "وفي محاولة منه لترطيب الجو بعيدا عن الحزم الذي يميز الرئيس بوش في مقابلاته يقوم بريمر بتوصيل رسالة زوجته الى الرئيس بوش والتي تثني فيها على خطاب الرئيس الأخير الذي يقول فيه "الحرية ليست هدية أمريكا الى العالم، إنها عطية الله الى الانسان " يبتسم بوش الذي يبدو عليه التأثر الواضح بكلمات فرانسي، ثم يصافحه مودعا.
يطير رسول الحرية الجديد مع فريقه الذي اختاره (هكذا هو شعور معظم المسؤولين الأمريكيين، من الرئيس بوش الى السفير بريمر، بأنهم رسل العناية الإلهية لتحقيق الحرية والعدالة في العالم )على متن طائرة سلاح الجو سي ـ130 متوجها الى بغداد وهو على قناعة تامة تذهب الى العكس من اتجاه الصحافة، فلم يكن بريمر رجلا لرامسفيلد أو لكولن باول وزير الخارجية الأمريكي السابق، بل رجلا للرئيس وهذا ما يعطيه مدا ودعما كبيرين في إدارته للعراق المحتل.ومنذ لحظة وصوله يدرك بريمر كما يكتب أن الإئتلاف الذي حرر العراق كما يدعي لم يحقق الا نصف هدفه في تغيير النظام والإطاحة بالرئيس العراقي صدام حسين.في حين أننا كما يقول "كنا بعيدين عن تحديد العراقيين الوطنيين الشرفاء والنشيطين الذين بوسعهم حكم العراق بعد سقوط البعث "( بول بريمر،عام قضيته في العراق،2006)ص17.
في بحثه عن الرجال الشرفاء الذين من شأنهم أن يحكموا العراق، يستبعد بريمر كل البعثيين الشرفاء، وهو لا يكتفي بذلك بل يوقع على قرار اجتثاث البعث من المجتمع العراقي، فلشد ما عانى من أيديولوجيا حزب البعث في العراق، من هنا نفسر سعيه المستمر الى المقارنة بين النازية الألمانية والبعث في العراق وهي مقارنة لا تستقيم إلا في عقل بريمر وممن ركبوا الدبابة الأمريكية.
يدرك بريمر خلال سنته اليتيمة التي قضاها في العراق في إطار سعيه الى معرفة العراقيين الوطنيين الشرفاء، وبعد لقاءات عديدة مع شخصيات عراقية مستقلة، كيف أن "الطائفة السنية تضم قادة مهمين لمستقبل العراق، وغير ملوثين بالبعثية "ص207 لكنه كان عاجزا عن ضم هؤلاء القادة الى جهازه الإداري والذين يلقون معارضة شديدة من منفيي العراق الذين جاؤوا مع دبابات الإحتلال بهدف حكم العراق.في الحقيقة وعلى طول صفحات الكتاب، يرتاب بريمر بنوايا هؤلاء الضيقة وإمكاناتهم المحدودة حيث، لم يستطع منفيو العراق تنظيم موكب، فمابالك بإدارة البلد "ص220 وهذا ما يفسر انتقاداته الشديدة لمنفيي العراق، من أحمد الجلبي الى مستشار الأمن القومي موفق الربيعي، الى سكرتير الحزب الشيوعي العراقي عزيز محمد الذي يستحق الشفقة والذي راح يحدث بريمر عن تلك الحقبة السوفياتية التي حكم بها الرئيس الروسي بريجيف والذي اثار استغراب بريمر من أن الرجل من أهل الكهف، فقد نسي أن بريجيف قد توفي منذ عشرين عاما؟.
يعيش بريمر في العراق في حالة حصار، فأجهزة الاعلام الأمريكية تركز على أفعال المقاومة أو ما يسميها هو بالعمليات الإرهابية مغفلة تماما عن الإنجازات الحقيقية على قلتها التي يقوم بها في إدارة هذا البلد المحطم، كذلك قناة الجزيرة التي يصفها بأنها "معادية دوما للائتلاف" والتي ما ملت من بث سمومها كما يقول؟؟ يضاف الى ذلك الكونجرس الأمريكي الذي يسخر من انجازاته في العراق، فعدد القتلى من الجنود الأمريكييين فاق كل التوقعات وهو آخر من يعلم، أضف الى ذلك دعوتهم له بالصمت في كل مرة يحظر فيها هناك ليتحدث عن التاريخ فالكل كما قالت له عضو الكونجرس يعرف التاريخ ولا يحتاج الى دروس من بريمر في هذا المجال، والتمرد يزداد ويحاصره في المنطقة الخضراء دون أن تكون هناك باعتراف بريمر أية معلومات استخبارية ذات قيمة وكافية عن التمرد "ص255 وأعضاء مجلس الحكم يحاصرونه بخبرتهم القليلة، وباهتماماتهم الضيقة "كان الجعفري كما يقول بريمر لا يفكر الا بجماعته "ص158 والتجسس على حياته الشخصية، وذلك عندما يفاجئه موفق الربيعي بالسؤال :يقولون يا سعادة السفير أنك تنوي الزواج من عدة عراقيات "ص160 فيتلعثم نائب الملك محتميا بمسيحيته التي لا تسمح له بأكثر من زوجة واحدة، ولكنها لا تحول دون أن يكون له عدد من العشيقات.
يدرك بريمر أن ترميم بلد محطم مثل العراق يحتاج الى كثير من الجهد والصبر والتعاون، ومايلفت النظر هو هروب بريمر من تحديد المسؤولية، فلم يكن للائتلاف دور في تحطيم هذا البلد، وعلى سبيل المثال فشبكة العراق الكهربائية كانت محطمة بسبب سنوات من الاهمال، وليس بسبب القصف الأمريكي لها، وهو لا يقنعنا هنا لماذا كان العراق قبل الاحتلال مغمورا بالكهرباء في حين أنه بعد الاحتلال بات لا يعرف الكهرباء، ولا يقنعنا أيضا كيف تم نهب العراق على مرأى من العالم ومن جنود الاحتلال مع علمه بأن الجنود الأمريكيون الـ "40" ألفا الذين دخلوا بغداد لم يكن لديهم أوامر بوقف الناهبين " هذا إذا لم يكن النهب قد تم بأوامر أمريكية وبروح انتقامية إذلالية عرفناها على طول الخط الممتد من نهب المتحف الوطني العراقي الى سجن أبو غريب.
ما يلفت النظر هو تبريره للمذابح التي حدثت للبعثيين العراقيين، ففي معرض حديثه عن مقتل ولدي صدام حسين قصي وعدي، يقول بريمر "كان ولدا صدام متوحشين "ص155 هكذا يبرر التوحش لجنود الاحتلال أن يقتلوا ويغتصبوا وعلى عينك يا تاجر، من سجن أبو غريب الى شهيدة المحمودية التي إغتصبها جندي أمريكي ثم قام بقتلها وقتل ثلاثة من أهلها مع أنها لم تبلغ الرابعة عشر من العمر؟.
يقول بريمر الذي لم يستسغ في العراق الا طعام الأكراد الذي هو" الأفضل في العراق "ص 122 "أن العراق أصبح مسرحا حاسما في الحرب على الإرهاب، وأننا إذا انتصرنا في العراق، فإن بالإمكان إلحاق الهزيمة بالارهاب الإسلامي "ص 186 ولكن هذا المسرح الحاسم الذي كان ينذر بريمر للعب دورفيه، يحاصر بريمر في الزاوية الضيقة فيصف نفسه بالقول "ليس هناك محتل على مضض من هو أكثر مني "ص 119 وفي إطار هذا الحصار والفشل الذي يلازمه في العراق لا يجد بريمر من مجال غير الهروب من العراق والالتحاق بشقراويه في ضاحية واشنطن ليتفرغ لكتابة مذكراته التي تؤرخ لتاريخ فشله في العراق وعجزه عن مواجهة الوقائع والتمرد أيضا.